مليحة مسلماني 7 يناير 2022
شكّلت رمزية السيدة مريم والسيد المسيح، بما تختزله من مفاهيم أهمها: المعجزة، والبشارة، واللجوء، والسلام، والألم، والصبر، رافدًا هامًا للحركة التشكيلية الفلسطينية على مدى مراحلها المختلفة منذ ما بعد النكبة. إذ كثيرًا ما استلهم الفنانون الفلسطينيون، الروّاد منهم بخاصة، شخصية السيد المسيح وأمّه السيدة العذراء، كل بأسلوبه الفني المميز، في أعمالهم.
وعلى الرغم من اختلاف الأساليب الفنية في تصوير المسيح وأمّه السيدة مريم في أعمال الفنانين الفلسطينيين، وتنوّع المعاني والمضامين المتعلقة بهما ضمن الواقع الفلسطيني المعاصر، إلا أن استلهامهم هذه الرمزية الدينية التاريخية يبقى يطوف حول العلاقة بين التاريخ والحاضر؛ من حيث توظيف التاريخ لخلق مقاربة بصرية معرفية مع الحاضر، كالمقاربة بين قصة لجوء السيدة مريم، وتهجير الفلسطينيين إبّان النكبة والنكسة، وكالمقاربة أيضًا بين صبرها، وقصة صلب المسيح، وتحمّلهما أعباء الرسالة وآلام الطريق الذي سلكوه من ناحية، وصمود الفلسطينيين من ناحية ثانية، ومعاناتهم وتحمّلهم أعباء مسار المقاومة الذي اختاروه.
يتناول هذا المقال رمزية السيدة العذراء والسيد المسيح في أعمال أربعة من رواد الفن الفلسطيني هم: الفنان الراحل إسماعيل شموط، والفنان الشهيد ناجي العلي، والفنانان سليمان منصور وعبد عابدي
………
قيامة الفلسطيني
تظهر شخصية المسيح في أعمال عبد عابدي في حالة مغرقة بالآلام وبثقل وكآبة الواقع تحت الاحتلال. تجدر بالذكر هنا رسومات الفنان التي رافقت مجموعة قصص “وما نسينا” للكاتب سلمان ناطور، والتي هي عبارة عن قصص تسجيلية تسرد أحداث النكبة وحكايات تهجير الفلسطينيين إبّان حرب 1948. نشرت كل قصة من المجموعة يرافقها رسم لعبد عابدي تِباعًا في مجلة “الجديد” ما بين عاميْ 1980 و1982. وفي الرسومات التخطيطية التي رافقت المجموعة القصصية “وما نسينا”، تظهر شخوص اللاجئين، محور الرسومات، في حيّز جغرافيّ مجرّد، يرسمهم الفنان أحيانًا بشكل غرافيكيّ، بعدد من الخطوط فقط، بحيث تستمد تلك الشخصيات قوّتها من النص الأدبيّ، ما يضفي على هذه الرسومات الطابع السياسي المأساوي لحدث النكبة.
تُفتتح كل قصة من مجموعة “وما نسينا” برسم تخطيطيّ لعبد عابدي؛ يصور الرسم التخطيطي الذي يفتتح قصة بعنوان “من البئر حتى جامع الرملة”، رجلًا مسنًّا ـ وهو الذي يلعب دور الراوي في القصص ـ بوجهٍ مليء بالتجاعيد تبدو عليه ملامح حزنٍ ممزوج بغضب، يقف في وضعية المصلوب وإلى جانبه طفل في حالة فجيعة، وتظهر في الخلفية نساءٌ في حالة من الحزن وقد مُدِّد أمامهن جثمان الشهيد. أسفل الرسم التخطيطيّ، يصف الشيخ، الراوي، أحداث تفجير وقعت في سوق الأربعاء بين بسطات الخضار في مدينة الرملة عام 1948، وأدّت إلى استشهاد الكثيرين؛ وبينما يحدد النص مكان وزمان المأساة، فإن الرسم، برمزية المصلوب وبخطوطه التي تجرّد الحدث من مكان وزمانٍ معلوميْن، يجعل من النكبة قضية إنسانية ـ كونية جامعة، غير أنه في ذات الوقت لا يتجرد تمامًا من محلية الحدث، فالسياق النصّي، والراوي الذي يحيل بوضعيته كمصلوب إلى التاريخ في فلسطين، والنساء بالزيّ بالعربي، ومآذن المساجد في الخلفية، كلها إحالات محليّة إلى الحدث المتعلق بالمكان والزمان الفلسطينييْن.
وفي لوحته “قيامة يسوع” تظهر شخصية الفلسطيني بصورة أقرب إلى المسيح بينما يظهر المخيم الفلسطيني في خلفية العمل. يحيل عابدي بهذا العمل إلى قيامة الفلسطيني بعد النكبة، رغم دربها المعبّد بآلام الفقد والتهجير، ليشقّ طريقه نحو استرداد الحقوق.
أخيرًا، تحضر كل من شخصية السيدة العذراء والسيد المسيح في أعمال رواد الفن الفلسطيني مرادفةً للإنسان الفلسطيني على اختلاف جنسه وعمره ومعتقده، طفلًا كان أو شابًا أو مسنًا، ذكرًا أو أنثى، مسيحيًا أو مسلمًا، ليحيل الرواد بهذا التصوير للإنسان الفلسطيني إلى تكرر التاريخ في فلسطين، وتجدّد دروب الآلام ـ التهجير والقتل والاعتقال والحصار ـ التي يسير فيها الفلسطينيون قسرًا في زمن الاحتلال. تنطوي رمزية مريم والمسيح في أعمال الروّاد على معاني الصمود، والتحمّل، ومواصلة النضال، والبشارة والأمل في الخلاص. كل أمّ فلسطينية هي مريم تحمل ببشارة، وكل طفل يولد هو مسيح يحمل راية البشارة في الخلاص
.