
بقلم عبد عابدي
نعت اللجنة المركزية لحزب الوحدة الاشتراكي في ألمانيا الدمقراطية وفاة الفنانة الالمانية وعضو اللجنة المركزية للحزب ، ليئا غرونديغ ، التي توفيت قبل ثلاثة أسابيع عن عمر قارب الواحد والسبعين . وكان لنبأ وفاة ليئا غرونديغ أشد الوقع في نفوس الكثيرين من الرفاق والاصدقاء في بلادنا ، الذين عرفوها مناضلة مثابرة ضد الفاشية ، ومخلصة في روحها الشيوعية للمبادىء الاممية ، في دعمها وتأييدها نضال الشعوب من أجل تحررها .وقد عرفنا الفنانة ليئا في لوحاتها عن الاطفال الفلسطينيين ، وتعاطفها مع القضية الفلسطينية ، ليس تصويرا وحسب بل قولا وفعلا .
وللفنانة الراحلة الدور الهام والبارز في ترسيخ الحركة الفنية في جمهورية ألمانيا الدمقراطية بعد نهوضها من حطام الماضى . وكذلك الدور المؤثر في تطوير كادر هام من الفنانين الالمان والأجانب الذين عملوا الى جانبها في كلية الفنون الجميلة في مدينة دریسدن وكان بينهم الرفيق الرسام عبد عابدى الذى عرف ليئا غرونديغ الاستاذة وعرف فيها الانسانة الطيبة الوفية للمبادي الخلاقة التي تمتعت بها دائماوفيما يلى نقدم بعض الخطوط في انطباعات عبد عابدي عن ليئا غرونديغ في أثناء مدة دراسته في دريسدن بين سنوات ١٩٦٥ ۱۹۷۱ ۰ * ( ((الاتحاد)) ) *
وجوه وتاريخ » *
عندما جئت إلى مدينة دريسدن في جمهورية ألمانيا الديمقراطية سنة ١٩٦٥ لم أكن أحمل عنوان لينا.
والسبب ما كنت على يقين أن أكثر المواطنين في هذه المدينة التي يبلغ تعداد سكانها أكثر من ٦٠٠،٠٠٠ – نسمة سوف يعرفونها. ولسبب ما لم أدركه إلا بعد مدة كنت أمزج شخصية لينا غرونديغ مع الفنانة الألمانية كيتا كولوفيتس التي ماتت في أثناء الحرب العالمية الثانية، مع إدراكي أن كولوفيتس، فنانة الأبيض والأسود، عاشت فترة أكثر شقاء وتعاسة من كل فنان آخر. ولربما كان هذا السبب في السواد وهذه المواضيع التي تطرقت لهما كلتا الفنانيتين
على كل حال فإن حياة لينا غرونديغ ليست جامدة وهادئة. فقد تمتعت بحيوية خاصة وفي جو عاصف بالاحداث الخاصة والعامة. وقد أقول.ان الاحداث العامة التي شاركت فيها الفنانة بدور هام كان الاهم وأنا شخصيا لمست دائما ان حديث لينا المعلمة عن حياتها كان يرتبط دائما بكل صغيرة وكبيرة عن العالم الكبير والصغير الذي نعيش فيه . فاذا تحدثت عن المنظافة في المصين فلا بد من الحديث عن الثورة واذا تحدثت عن غتيات فلسطينيات في أثناء وجودها في بلادنا قبل قيام اسرائيل فلا بد ان تشرح ظروف الموضع السياسي وهكذا هي لينا غرونديغ المرفيقة والفنانة المليئة بالحركة وغزيرة الانتاج الفنى . وقد كان الملقاء الأول مع أستاذتي في كلية الفنون الجميلة حيث طلبت منى أن أخاطبها مباشرة ودون ذكر الالقاب . واعتراني في هذا.
الموقف شعور ممزوج بالخجل حينا وبالتقدير والاحترام الشيوعي في توجه . مخاطبة الرفاق
كانت هي في سنوات المستين من عمرها ، متوسطة القامة ، سمراء البشرة وسوداء الشعر ، مليئة بالحيوية والنشاط الذى استرعى انتباهي . وكان حافزا لي أن أقدم العشرات من ( الخراطيش والمسودات » حتى أقضى في محادثتي بعها أكثر وقتا . تبدأ من الحديث عن اللوحات وتنتهى في الحديث عن أوضاع العالم والمشاريع التي سوف تقوم بها لقد عملت بجانبها سنتين قبل أن انتقل الى فروع أخرى في الكلية ،لكن العلاقة المتينة التي ربطتني بها استمرت طيلة مدة وجودي في مدينة دريسدن . وكنت أنا ( همزة الوصل ) في دعوة الأصدقاء التي أحبتهم لينا لقضاء أمسية عندها في المشقة التي كانت تسكنها في شارع دوندورف . كنا خليطا من المدعوين المحليين والاجانب ذوى مهن مختلفة لكننا جميعا ميزتنا المنزعة الواعية والمقضية المشتركة في البحث عن الافضل في هذه الحياة التي قد لا ترحم ومن الطبيعي ، كما كان يقول المهندس المتقاعد همبورغر الذي عاش فترة طويلة في الصين قبل الثورة ، أن تتزعم ( لينا الجلسة بأن تعلن الى جمهور الحاضرين : أيها الأطفال : إذا كنتم تحبون شيئا فاذهبوا الى المطبخ . وتناولوا ما شئتم . انني ربة بيت سيئة . أستطيع أن أبقى كل ساعات اليوم أمام اللوحات . لكن لا أستطيع أن أبقى في المطبخ أكثر من دقائق ! . وقد يحتدم النقاش حينا عندما لا يوافق أحدنا في قضية سياسية فتدخل لينا بلهجة حازمة وفي تودد عندما تقول لنا كبيرا وصغيرا : أيها الأطفال أن المسألة هي في المصراع الطبقي والمتحالف العمالي ضد أعداء الطبقة الا تعرفون ماذا جرى في المانيا قبل الحرب وبعد تسلط المنازية على المحكم وعندما نتحدث عن قضية المشرق الأوسط كانت تنظر لى وتطلب أن أتحدث فقد كنت بمثابة ( المتحدث الرسمي ) كما يقال في المعجم السياسي من حيث التعبير عن قضيتي ، وسفير لوحاتي ورسومي التي عبرت فيها عن خطوط مأساة شعبي ووطني ، وكانت هي تقف خلف كل لوحة وعمل أعبر فيه عن خلجات احساسي الذي كان يعي ويكبر مع أعماق القضية وأيقنت كم كنت متأثرا بأعمال لينا وكولوفيتس والنحات والمشاعر بارلاخ وغيرهم من حركة ال ( 1 . س . س . و . ) ) وهي حركة الفنانين المتقدميين في ألمانيا في سنوات الثلاثين )
وعند انتقالي الى فنون الحائط باشراف الرسام بوندزین ، تنوعت معها عملية الشمول وأحجام اللوحة الممتدة بالامتار . وجا بهتنی مسائل
أهمية كانت في بحثي الأول عن الحديقة الخاصة بي ، وعن الشخصية الخاصة ، تبنيها حتى تكون أنت ، وتتبلور وتتمازج معها حتى تتوصل الى
ما يتراءى لك بأنك قريب الى المحقيقة
ليئا غرونديغ – وجه في اللوحة *
في سنة ١٩٦٨ احتفالات لينا غرونديغ بعيد ميلادها ال ٦٥ في قاعة مرسمها المرحبة في أكاديمية الفنونمعقدة في بلورة المتكنيك مع المشكل والمضمون ، الا ان المفترة الاكثر وقد توسطت الملوحات ، التي عرضت هناك ، لوحة لفتت انتباهي ولا زلت معجبا بها : وجه لينا في بعدين
الأول المواضح من حيث المتقاطيع والتعبير – عينان لوزيتان كبيرتان تحدقان بك تراهما وتراك كيفما نظرت اليها . والوجه الآخر ال تداخل والخلفي يطل بعيدا خارجا العينان مغلقتان نائمتان من العتمة في حلم بعيد ، والفم يبدو لك إنه التزم الصمت الابدى . وكنت كلما دخلت الى مرسمها أخذت أحدق و أمعن المنظر في الوجهين بالصورة الواحدة . وقد أمعنت في التحديق أكثر عندما علمت في وقت لاحق أن لينا غرونديغ تشكو من مرض القلب وبدأت وكأنني أعيش مع اللوحة مدركا ان المسنوات الآتية سوف تربطني مع الملوحة بتاريخ وبذكريات لقد رجعت الى الميلاد في نهاية عام
1971 وعلمت أن لينا لا تزال نشيلة
وتنتقل مع معارضها من بلد إلى آخر وترسم اللوحات عن تشيلي الجريحة وعن الأطفال الآتين من فلسطين وقبل حوالي السنة لم أعرف عنها
شيئا سوى أنها في المستشفى. وعنا بدأت أدرك أن المرض سوف لا يمهل وأن الموجه الآخر المشاحب والمتداخل مع السواد سوف يكون التاريخ
الصامت والموجه المحدق الذي ينبهك ويرشدك. وكأن لينا فرونديغ بعد وفاتها في ۱۰-۱۰-۱۹۷۷ تكرر جملها المعروفة المودية بقولها: أيها الأطفال
الطيبون لا تدعوا العدو الطبقي يفوتكم. توحدوا في المطبقة التي تنتمون إليها وحاربوا عدوكم المطبقي أبداً أبداً ودائماً!
…
إشارة: “وجوه وتاريخ لينا غرونديع (أوتوبيوغرافية) (١٩٦١) رلين

