زارت الوطن في الأسبوع الفائت الزعتريّة إيفا(سميرة) حمد، وحين التشاور حول برنامج الزيارة أبدت رغبتها بالتعرّف على الفنّ الفلسطينيّ المحليّ وكان لا بدّ من تحقيق رغبتها فزرنا معرض “الناصرة بعيون فنّانينّا” في قاعة كنيسة فندق سانت جبرئيل في الناصرة، مرسم الفنّان النصراويّ زياد الظاهر، مرسم الفنّان الطمراويّ أحمد كنعان، مرسم الفنّان العكيّ وليد قشاش ومرسم شيخ الفنّانين الحيفاويّ عبد عابدي، حيث زرنا مرسمه برفقة زوجها نستور وزميلي المحامي فؤاد نقارة.حين دخلت المرسم اصابني إحساس بالخشوع وكأنّنا في معبد، حيث تجوّلنا بين اللوحات، وكذلك أطلعنا على لوحة قيد الرسم.
ولد عبد عابدي عام 1942 في حيفا وهُجّر منها إثر النكبة مع أمّة وإخوانه وعمره 6 سنوات، بينما بقي والده في حيفا. ذاق الأمرّين في مخيّم الكرنتينا ومخيّم الميّة وميّة في لبنان، ولحسن حظّة عاد إلى بلده بعد ثلاث سنوات من الترحال واللجوء.
درس التصميم الغرافيّ، الجداريّات، النحت البيئيّ والفنّ في جامعة درزدن، جمهورية ألمانيا الديمقراطيّة، وعاد إلى حيفا ليعمل في صحيفة الاتحاد ومجلّة الجديد وليعلّم الفنون.عابدي رسّام، مصمّم ومدرّس فنون، حمل اللجوء والنكبة في البدايات، وما زال هناك رغم مضيّ الوقت، فلا تقادم على تلك الجريمة النكراء، فالنكبة مستمرّة
يستعمل آليّات مختلفة ومنها الزجاج والمعادن، الطباعات الحجريّة، النقش على النحاس والخشب والطباعة الشبكيّة. ألوان لوحاته متعدّدة ومتنوّعة، رغم أن الأسود والأبيض يطغي على غالبيّة أعماله.
استعملت رسوماتة لمرافقة كتب ومنها “سداسيّة الأيام الستّة” و”الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” لإميل حبيبي، “وما نسينا” لسلمان ناطور، “بأمّ عيني” لفليتسيا لانغر وغيرها
له العديد من الجداريّات جداريّة فسيفساء في كلية عبلين، جداريّة فسيفساء في ساحة كنيسة السيدة للروم الكاثوليك في حيفا، جدارية “العلم والمعرفة” و”شمس الشروق” في عبلين، تمثال “شجرة المعرفة” في الزرازير، النُصب التذكاريّة في شفاعمرو، كفر كنّا وكفر مندا، ومن أشهر أعماله النصب التذكاري لشهداء يوم الأرص (بالتعاون مع الفنّان غرشون كنيسبل) في سخنين؛ مبنيّ على شاكلة تابوت حجريّ من الرخام نُقشت عليه وجوه وزخرفات، منها امرأة تحتضن جرّة كبيرة (هذا الموتيف يظهر في الكثير من أعماله)، امرأة ثانية تحمل منجلّا تحصد به وثالثة تبذر الحبوب، وسُجّلت أسماء شهداء يوم الأرض وكُتِب “استشهدوا لنحيا.. فهم أحياء
”.
شارك عبد في عشرات المعارض، الفرديّة والجماعيّة، في البلاد وخارجها، في ألمانيا، قطر، بلجيكا، بلغاريا، اليابان، اليونان وغيرها له مئات الأعمال واللوحات، وواكب عشرات الفنّانين في بداياتهم.تأثّر بالنكبة واللجوء والحياة تحت وطأة الحكم العسكري ويبرز الأمر جليًّا في موضوعاته المختلفة والمتنوّعة؛ يرسم وجوه اللاجئين المنكوبين الحفاة والملتحين، خيم وأكواخ المخيّمات، الشبابيك والأبواب التي تنتظر أهلها بحرقة، أزقّة وادي النسناس، والمجسّمات لكُتل بشريّة لناس يلبسون العباءات وأرجلهم حافية يحملون رجلًا على أكتافهم ويداه طويلتان تتدلّى على الجانبين يشقّون طريقهم نحو المجهول، نحو مستقبل أفضل، لوحة ترسم النكبة والهمّ الذي يحمله الفلسطيني المشرّد، وتأخذني للوحة “إرث الشهيد” لصديقتي الفنّانة الفلسطينيّة المُهجّرة تمام الأكحل، فطفلها يحمل على كتفه الأيسر جثّة والده العارية بطولها الفارع، يرزح تحت وِزْره، يحمل جثة والده الذبيح، تتدلّى ذراعاه وقدماها من أمامه وخلفه عيناه مثقلتان بتاريخ مضى ومستقبل مجهول بعيد.
رسم عابدي حكاية شعبه على مرّ العقود، من التهجير إلى المعاناة وحياة اللجوء في المخيّمات، الفقر والاستبداد والانتفاضة الأولى وآثارها على رواية شعبنا.، فريشته سطّرت تاريخ شعب ذاق الأمرّين وما زال يعاني على أمل بالعودة! عبد عابدي حالم أزليّ
!!كلّ منه أعماله مقولة ناتجة عن وعي قوميّ، طبقيّ وسياسيّ وانحاز للمظلومين وضحايا الشرّ والدمار فجنّد ريشته لفكره وقضيّته، فلا عيب في انحيازه المطلق لقوميّته.
طغى على حديثنا المطوّل حيّز النكبة واللجوء، السفينة المتآكلة التي أقلّته إلى لبنان اللجوء وسوريا الذي ما زال يلاحقه وأعماله، والفقدان، ولازم مكوثنا معه ساعتان من الخشوع وكأنّنا في معبد… ولكنّه من نوع آخر.وجدت في لوحاته رسالة والتزام وتحدّ لفنّان مرهف الحسّ الوطني فأبدع، وما زال في قمّة عطائه الفنّي، في عقده الثامن، ويستحق، وبجدارة، لقب “شيخ الفنّانين” الذي أطلقه عليه زميلي فؤاد حين شارك شريط الجولة على صفحة نادي حيفا الثقافي.
المحامي حسن عبادي
19/12/2018 بقجة