
فنان من صميم الشعب. عرف مرارة التشرد واللجوء, وعانى ما عاناه الشعب وكافح بريشته كما كافح الشعراء بقصائدهمْ. اكسبه انتماؤه الشيوعي وضوح الرؤية , فجند ريشته وموهبته في خدمة الشعب
عندما احتفل الرسام عبد عابدى فى السادس عشر من الشهر الحالى بعيد ميلاده السادس والثلاثين لم يدر بخلده ان هيئة تحرير ( الاتحاد )) ستستضيفه بعد ايام ليصبح ضیف الشهر الثالث ٠ ولعله اعتقد ان ضيف الشهر يجب آن يكون من الذين تجاوزوا الخامسة والستين او الثمانين من العمر ومروا على مراحل مختلفة طويلة وشاقة من الكفاح . بالطبع نحن لا نقلد مجلة ( الموعد » او غيرها حين تتعرض لحياة فنان ونتطرق الى التفاصيل الخاصة التى لا تهم الجمهور بكثر او قليل ٠ بل نهتم بالامور المشتركة بين حياة
وانتاج ضيوفنا وبين عامة الشعب ٠ فنحن نريد ان نلقى الضوء على ملامح مسيرة حياة الضيف والتى هى فى الواقع جزء من مسيرة كفاح الشعب بشكل عام ٠ وليكن فى ذالك
تکریم للضیف فمن قال انه لا یجوز تکریم انسان فی وطنه ؟ ما دمنا لا ننتظر من صحف اخرى ان تقوم بذلك ؟
تأخر عبد عابدى عن الموعد اكثر من نصف ساعة . ولكنه لم يكن من نوع التاخر الذى يتعمده الشاعرون باهميتهم . كان ذلك بسبب انشغاله فى النصب التذكاري لشهداء يوم الارض الذى يعكف عليه جاهدا لانجازه في الوقت المحدد . والذى زاره حيث يعمل فى قولبة ذلك النصب الضخم يجد له عذرا ۰
اعتذر عن التاخر وهو يجفف يديه ٠ وجلسنا نتحدث حول فنجان من القهوة .
مصادر الالتزام
ولعله من نافلة القول تكرارا ان عبد عابدی فنان ملتزم, فذلك امر يعرفه کل من سمع به او اطلع على لوحاته واعماله . اما كيف اصبح فنانا ملتزما فذلك يعود الى جملة من الظروف
والاسباب شرحھا کما یلی قال :
« لم يكن التزامى صدفة . ولعل منبتى الاجتماعى ساهم بالتاكيد فى تقرير اتجاهى . ولدت فى حيفا فى١٦/٢/١٩٤٢ لعائلة شعبية . ولا يذكر الاحياء فى الاسرة ان كان للعائلة موطن اخر غيړ حیفا . فجدي, لابي , ولد فى حيفا . ولا نعرف اكثر من ذلك , اذ لا نحتفظ بشجرة العائلة شان الاسر الارستقراطية ! وكان جدي صيادا . وکان صيد السمك احد مهنتين تعاطتهما الاسرة فى ذلك الوقت.
اما المهنة الثائية فكانت « الدقاقة » ونقش الحجارة . ولعلى تاثرت بالمهنتين معا . فنشات على حب البحر والرسم .
وابي عمل منذ صغره فی صيد الاسماك . وغندما نشبت الحرب العالمية الاولى حالفه الحظ فلم يرسل الى جبهات القتال لانه عمل سائق عربة لدى القائمقام التركي . وبحكم عمله سافر وتجؤل كثيرا . وطالما حدثنا عن تلك الايام التى يحتفظ بذاكرته بالكثير الكثير من احداثها
اما امي فهي من قرية كفر لام . وعمها كان عبد الرحمن الحاج الذى رئس بلدية حيفا لفترة ما فى سنوات اآثلاثين .
وبعد انتهاء الحرب العالمية الإولى غير والدي مهنته . وفتح خانا للخیول والعربات فى شارع العراق . ولكن هذه المهنة التى كانت رائجة فى اول عهد الانتداب البريطاني ما لبثت ان اعتراها الكساد نتيجة للتطور الصناعى, وحلول السيارة محل العربات والخيول . وما عتم ان صفی والدی خانه فی اوائل الخمسينات . أما عائلتنا فلم تكن كبيرة نسبيا ,
لى اخ وثلاث شقيقات واحدة منهن لا تزال لاجئة فى سوريا ٠
س : معروف إنك تلقيت تعليمك فى المانيا الدمقراطية فهل لك ان تشرح لنا طرفا من
حياتك قبل سفرك وکیف بدات حياتك الدراسية والعملية ؟
ج : تلقیت تعلیمي الابتدائي فى مدرسة الاخوة فى حيفا . كنت تلميذا عاديا . احب مواضیع دون غيرها . كنت اميل الى الانشاء والكتابة . اذكر مرة اني كتبت موضوعا تقليديا جوابا على سؤال المعلم ( ايه مهنة ستختار ». تصورت نفسی فنانا او رساما کبيرا يبلغ حدا من الشهرة يؤهله انيل جائزة نوبل ( لم اكن اعرف ان جائزة نوبل لا تمنح اللرسامين ) ورحت أصور نفسي بسذاجة الطفل وانا اقسم الجائزة النقدية باكملها على الطلاب الفقراء الموهوبين .
ولكن ظروف العائلة المالية لم تكن لتسمح لى بمتابعة.تعليمي الثانوي والجامعي فيما بعد . وكان علي ان اكسب قوتي من العمل . وعملت حدادا . ولگنی لم اتخل عن احلامي
الفنية , فالتحقت بمدرسة مسائية . كنت ادرك ان الهواية وحدها لن تجعل من ای انسان فنانا ذا شان . وكان لا بد من التحصيل والتعلم . كان عمرى آنذاك ١٦ سنة.
وتوفر لى فى المدرسة المسائية تلك وهى تابعة للهستدروت ظروف مواتية ومعلمون اكفاء مثل الرسام ابراهام یاسکل والنحات کافری من نهلال » .
س :ما هى اعمالكالاولى وبماذا تأثرت ؟ أ
ج: كانت اللوحة الاولئ التي رسمتها تصور امرأة تبيع البيض والى جانبها طفلها بملابس ممزقة يطالبها بان تشتري له ملابس جديدة للعيد .
فى اللوحة الثانية صورت الولد وقد ظفر بثياب جديدة , وهو واقف امام اراجيح العيد بقلب كسير, لانه لم يكن يملك القروش اللازمة لدافع اجرة الارجوحة .
وپالتاكيد كنت متاثرا بما عانيته فی طفولتي من تشرد وفقر , شان الاغلبية الساحقة من ابناء هذا الشعب الذى مر بواحدة من افدح النكبات ولا يزال يعانى آثارها الرهيبة حتى اليوم . فقذ كانت عائلتنا بين العائلات التي شردت من حيفا عام ۱۹٤۸ . وانتهۍ بنا المطاف الى دمشق الشام حيث وجدنا ماؤى لتا في احد الجوامع . كنت فى حدود السابعة من العمر . ولکن ما رایته وشاهدته وما مررت به من تجارب لا تزال منقوشة فی ذاکرتی بوضوح رهیب . وقد طبعت هذه الفترة بطابعها القاسي جميع اعمالى فیما بعد » .
س : ولكن لوحاتك لا تعكس الكابة والتشاؤم .فهي الى جاب تصوير الجوانب الماساوية يشع فيها التفاؤل ايضا .
ج : « هذا بفضل التاثيرات التى انطبعت في نفسي بعد عودتي مع العائلة من سوريا فى عام ١٩٥١ فى نطاق نظام جمع شمل العائلات . ولم يكد يستقر بي المقام فى حيفا
حتى انتسبت الى حركة الطلائع الشيوعية فى حيفا عام ١٩٥٢ . وبعد ذلك بسنتين انتسبت الى حركة الشّبيبة الشيوعية . وعندما بلغت سن الرجولة اصبحت عضوا في الحزب الشيوعي الاسرائيلي . وفى الحزب تثقفت نظريا وعمليا . لقد عشت فى تلك الفترة التي كانت تجري فيها ملاحقة العمال العرب . فبالاضافة الى انظمة التصاريح العسكرية كان العمال العرب يطردون من اماكن عملهم , تحت اشراف زعماء الهستدروت, بحجة انهم غير منظمين, وبقصد استبدالهم بعمال يهود.
وقد دابت في ذلك الوقت على كتابة مذكرات اودعتها مشاعري وانطباعاتي . ولم انقطع عن الرسم . كنت اشعر بالحاح بضرورة تصوير ماساة شعبنا من ناحية وكفاحه من ناحية اخرى . ولم تكن الكلمة وحدها كافية . کان الشعر الکفاحي فى مكان الصدارة . فى حين كان فن الرسم لا یزال یحبو . وقررت ما بینی وبين نفسي ان اجعل الفن والرسم وجهتي الرئيسية . خصوصا بعد ان نجح اول معرض لې اقمته فی تل ابيب في نادي الحزب عام ١٩٦٢ . وقد كنت راضیا بما کتبه الزانرون فی سجل المعرض من مديح اكسبني ثقة بالنفس وتشجیعا . حتی ان رساما اسرائيليا بارزا انذاك مثل شمعون صبار كتب عن المعرض
ويجب الاعتراف بالجميل لصحف الحزب الشيوعي وخصوصا للغد التى نشرت رسومي ولوحاتي . وکان الرفيق ابراهيم مالك اول من كتب عن انتاجي منوها بموهبة واعدة ولافتا الانظار الي ومطالبا بتطوير موهبتي . ولم ببخل علي الحزب الشيوعي بالمساعدة . وحينما طلبت أن تتاح لى الفرصة لمتابعة الدراسة فى بلد اشتراکي کان لي ذلك . وفي اواخر
عام ١٩٦٤ سافرت الى المانيا الدمقراطية لاجد نفسي امام تحد جديد لا يخلو من تعقیدات .
جابهني السؤال المقرر : كيف يمكن الحصول على الثقافة التى اريدها بحيث اربط الماضي بالمستقبل , خصوصا وانه لم يتح لى من قبل الالتحاق بمدرسة ثائوية . وكنت اعرف ما
بنتظرنى من جد وجهد . ولكن الممكنات الهائلة التى يتيحها بلد اشتراکي , مع جهد ملائم اقوم به , كانت كفيلة بتذليل المصاعب . وفي مدينة درسدن تغلبت على التعقيدات .
واكملت دراستي الثانوية وتعلمت اللغة الالمائية . وساعدتني كثيرا مكتبتها الفنية المشهورة والتحقت بمعهد الفنون الجميلة . ووضعت رجلي بثبات على الطريق الصحيح .
وفي المانيا الدمقراطية تحسست الجمالية فى تراثنا وتعرفت اليه وعشقته . ودرست الفنون الاسلامية وطريقة تطبيق المفاهيم الجمالية عليها
ساعدني في ذلك انتمائى الفكري ووضوح الرؤيا لدي .
ولم نلبث › نحن الطلاب الإجانب فی درسدن , ان آقمنا معرضا لاعمالنا. وكتب ابراهيم مالك, وکان يدرس آنذاك في المانيا الديمقراطية , عن المعرض الى مجلة « الجديد » .
س : هل كان عملك وتعليمك مقصورا على الرسم ؟
ج : لا. لقد رکزت في دراستي على موضوع الرسم «الجرافي» ( بالابيض والاسود ) ورسوم
الحانط على اعتبار ان هذه اداة تعبير كفاحية يمكن الرد بواسطتها بسرعة على الاحدات وعكسها بشكل
يدخل الى كل بيت , الامر اذى يساعد فى كفاح شعبنا . ودرست الفلسفة وعلم الجمال .
كذلك لم یکن عبثا اختیاري الرسم الحانطى (البنورامىي) . فرسوم الحائط ايضا › هى اداة تساعد على نقل الفن الى الجماهير . وهو امر له دلالته فی بلاد لم تتعود جماهيرها الذهاب الى المتاحف.
وهذه الرسوم لا تقوم › بالطبع مقام المتاحف ولا تغنى عنها , ولكنها نوع من المتحف الذى بمكن ان تشاهده الجماهير بشكل يومي دون عناء
وليس صدفة ان تكون هذه الاداة من الكفاح عبر الفن قد بدآت في بلد مثل المكسيك حيث الكفاح هو خبز الجماهير اليومي . وقد اكد الرسام المكسيكى سيكورس اهمية رسوم الحائط كعامل نضالي يخرج الفن من برجه العاجي الى الجماهير صاحبته الشرعية .
ومع كل هذا ينبغي ان نأخذ في الحساب ان شعوبنا تجابه مشكلة
ثقافية تتمثل فى حرمانها من استمرارية حضارية لعدة قرون فى ظل الحكم التركى المظلم . وفوق ذلك فان الحضارة العربية الاسلامية تم تكن تشجع الرسم بالمعنى الذى نفهمه اليوم . ثم جاء عهد الظلام فى ظل الحكم التركي ليجمد التطور الحضاري بل يعيده الى وراء .
كذلك درست اسلوب اقامة النصب التذكارية . وفي المانيا بدأت تصميم نصب تنکاري يرمز للتضامن بين الشعوب .
س :ما هي مدرستك الفنية ؟
ج : بعد الحصول على شهادة فى موضوعي الجرافيك ورسوم
الحائط , رحت احاول » منذ عودتي الي الوطن تطبيق ما تعلمته وبلورته بشكل اصيل على واقعنا الموضوعي. وكنت احس بالتناقض الذى نعاني منه . فمن ناحية لدينا شعر اصيل ذو شهرة ذائعة ولغة جميلة وكتاب مرموقون , ومن ناحية اخرى لم يكن
| فن الرسم على هذا المستوى .
ومضيت احاول ان اجعل الفن يلحق بالرکب قدر استطاعتي . واعتقد آنني, وزملائی , قطعنا مشوارا لا باس به.
س :ماهى المواضيع الإساسية التى تعالجها في رسومك ولوحاتك ؟
ج : هي المواضيع نفسها التى يتعرض لها زملائى من الكتاب والشعراء والتی تهم شعبنا الصامد والمكافح › مع اختلاف الاداة . اى المضامين نفسها مع اختلاف الوسائل . وعلیه کانت لوحاتي الإولى تعكس الفزع . فالطفل يظهر جانب من وجهه بينما يختفي الجانب الإخر خلف آمه ».
س : بمن تأثرت من الرسامين » وغير محليين ؟
ج : من الرسامين غير المحليين ولكنهم فلسطينيون تأثرت باسماعيل شموط وابراهيم هزيمة . والاول يهتم بتصوير آثرواقع بكل حدته معطيا المشاهد تصور الحل حسب تاثره. واما الثاني فيغلب على رسوماته الحنين .
ولکني حاولت , من جانبي ولعل في هذا الإختلاف بيني وبينهما , تصوير اللاجئين , ليس فى اوضاعهم الملموسة فقط , بل وفي حركتهم المستمرة وتطلعاتهم بحثا عن حل ومکان .
وليس هنالك رسامون محليون ذوو مدرسة يمكن التائر بها . وانا اعمل على ايجاد مدرسة رسم محلية . وهي کما ترون ,› مشوار طویل .
س: ما رايك في الحرکة الفنية فى البلاد ؟
ج: من الظواهر المفرحة ان هناك اقبالا على الرسم كرد فعل
طبيعي على الجفاف فى الماضي . وهناك رسامون شبان يرسمون بشکل صحيح ویبشرون بمستقبل حسن مثل خليل ريان من طمرة وانيس ابو ركن من عسفيا واديب كمال من دالية
الكرمل ومروان ابو الهيجا من طمرة وظاهر زيداني من الناصرة . والاخير انهي دراسته فى المانيا الدمقراطية .
ومن دواعی سروري وفخری انني ساهمت فى مساعدة بعض الرسامين الشبان الموهوبين مثل كمال ملحم من کفریاسیف وسعاد نصر وتړیز نصر من حيفا وسلمان سكس من كفر
ياسیف .
س : ما هي آخر اعمالك؟
ج : « آقوم حاليا ببناء النصب التذكاري لشهداء يوم الإرض الذي عملت في تصميمه بالاشتراك مع الرسام العبري المعروف جرشون كنيسبل وسيزاح الستار عن هذا النصب في الذكرى السنوية الثانية بوم الارض فی ۲۰ آذار ۱۹۷۸ .
xوعبد عابدی کقنان شعبي لم يقتصر عمله على لوحات ورسوم حائط . فقد صمم عدداً كبيړا من الملصقات اأتي اسهمت فى معركة الحزب الانتخابية ومعارك الشعب الختلفة .
ونحن نتمنى له المزيد من النجاح فى حياته العملية › لانها بالتالى , خدمة لقضية هذا الشعب , وخدمة للسلام والاشتراكية .
ولا نری باسا فی ان يشتهر الفنان فى حياته . فبالاضافة الى كون ذلك ثمنا ادبیا لجهوده فلا بد ان تکون دافعا له للمزيد من العطاء . والشعب هو الرابج فى نهاية الامر .


















