أعمال عبد عابدي تسرد هنا، وبشكل غير مباشر، حكايته هو شخصيًّا، إذ أنّ طرح شخصيّة لطفيّة اللّاجئة في العمل الفنّيّ، وشقيقة الفنّان، هو طرح لهويّته هو من خلال أخته وعائلته الّتي عانت تشتّت الأوصال نتيجة الحرب
.حضر النّصّ بشكل مستمرّ في أعمال عبد عابدي، الّذي ظلّت النّكبة موضوع استقصائه الفنّيّ على مدى مسيرته التّشكيليّة الّتي تمتدّ لخمسين عامًا، مستلهمًا شخوص لوحاته وحالاتها وحكاياتها من الذّاكرة الجمعيّة ومن الأدب الفلسطينيّ، الّذي شكّل رافدًا خصبًا للحركة التّشكيليّة الفلسطينيّة منذ منتصف القرن الماضي، والّذي حاوره عابدي بالمقابل برسومات جاءت في إصدارات شعراء وأدباء، أمثال إميل حبيبي، وطه محمّد علي، وسميح القاسم، ومحمود درويش وغيرهم. ومن بين الأعمال الّتي تمثّل العلاقة المبكرة والمتينة بين الأدب والفنّ الفلسطينيَّيْن، الرّسومات الّتي رافقت مجموعة قصص ‘وما نسينا’ للكاتب سلمان ناطور، وهي عبارة عن قصص تسجيليّة تسرد حكايات تهجير الفلسطينيّين إبّان حرب 1948. نُشِرَتْ كلّ قصّة لسلمان ناطور يرافقها رسم لعبد عابدي تِباعًا في مجلّة ‘الجديد’ بين عامي 1980 و1982، ليدلّ هذا الأداء المشترك للمبدعَيْن على عمق التّرابط المبكر بين النصّ، شعرًا كان أو سردًا، واللّوحة أو العمل الفنّيّ، وهي علاقة وظّف فيها المبدعون الفلسطينيّون، أدباء وتشكيليّين، أدواتهم وأساليبهم لخلق عالم إبداعيّ متكامل، يسجّل المأساة الفلسطينيّة ويحفظها في قالب فنّيّ قابل للتّجديد والتّراكم والتّأمّل.
لطفيّة… اليرموك
تستمرّ رؤية عبد عابدي البصريّة – النّصّيّة ضمن صيرورة معرفيّة – إبداعية تراكميّة، ليُنْتِجَ مجموعةً من الأعمال حملت عنوان ‘إلى لطفيّة، شقيقتي في مخيّم اللّاجئين، اليرموك’. تلك المجموعة الّتي أنجزها الفنّان خلال السّنوات القليلة الماضية، وقد عُرضت عام 2013، تأتي في تزامن مع الحصار المفروض منذ أكثر من عام على مخيّم اليرموك، والّذي يستمرّ ويشتدّ نتيجة الأزمة في سوريا، ليصل إلى حدّ الكارثة الإنسانّية الّتي أدّت إلى تهجير معظم سكّان المخيم، وتجويع الباقين منهم واستشهاد الكثيرين، ما يثير في الأذهان أسئلة حول مصير لطفيّة، الشّخصيّة المركزيّة موضوع تلك المجموعة، ومن هم مثلها من اللّاجئين الفلسطينّيين. ذلك مدخل أوّل لأعمال عابدي الّتي تأتي بالتّزامن مع مأساة محقّقة في مخيّم اليرموك وبقيّة مخيّمات اللّاجئين الفلسطينيّين في سوريا، الّذين يمرّون بتجربتي اللّجوء والحرب للمرّة الثّانية
.أعمال عبد عابدي تسرد هنا، وبشكل غير مباشر، حكايته هو شخصيًّا، إذ أنّ طرح شخصيّة لطفيّة اللّاجئة في العمل الفنّيّ، وشقيقة الفنّان، هو طرح لهويّته هو من خلال أخته وعائلته الّتي عانت تشتّت الأوصال نتيجة الحرب. تحظى الأخت بمكانة خاصّة في وعي وقلوب إخوتها الأصغر منها، تقترب فيها من مكانة الأمّ الّتي يتماهى طفلها معها. هكذا يبدو طرح عابدي البصريّ في أعمالٍ موضوعها الأخت الّتي تحفظها ذاكرته ووجدانه، ويتماهى معها مكرّمًا إيّاها، رمزًا للذّات الفرديّة الفلسطينيّة الّتي تشترك مع غيرها بمأساة التّهجير الجماعيّ.
الحكاية
يروي عبد عابدي سيرة اللّجوء الّتي عايشها في مقال كتبه في ذكرى رحيل الفنّان إسماعيل شمّوط، فيقول: ‘في شهر نيسان من عام 1948، كانت عائلتي الكبيرة والمكوّنة من عائلات الحاجّ والقلعاويّ وعابدي وبدوان من العائلات الحيفاويّة العريقة، تعبر مسالك التّشرّد عبر الميناء و‘نهر المقطع’ شمالًا إلى لبنان وسوريا والأردنّ. كنت أنا ولدًا صغيرًا عندما التحقنا بمركب تجاريّ أقلّنا بحرًا مع جدّتي فاطمة القلعاوي وجدّي نايف الحاجّ وأمّي خيريّة وأخوتي زهرة وسعاد، وأخي طيّب الذّكر ديب، إلى ميناء بيروت، ومن هناك إلى الكرنتينا، ومن ثمّ إلى مخيّم الميّة وميّة (كان معسكرًا للجيش الفرنسيّ في فترة الانتداب الفرنسيّ في لبنان وسوريا)، وهو مخيّم يقع على أطراف مدينة صيدا…
رحلنا جميعًا ما عدا والدنا قاسم عابدي، الّذي أبى أن يترك وسادته وحصيرته في حيّ وادي الصّليب القريب أمتارًا معدودة من شاطئ البحر الهادر في مدينة حيفا. سيرتي الذّاتيّة هذه تشبه إلى حدٍّ كبير المسار المأساويّ الّذي مرّ به إسماعيل وتمام في مسار التّشرّد من اللّدّ إلى رام الله مشيًا على الأقدام، وتشرّد زميلنا الفنّان محمود طه من يبنة إلى شرق الأردن، وناجي العلي من الشّجرة مرورًا بطريق المسيح إلى طبريّا، ومن ثمّ صاعدًا قمم الجبال إلى قرية مرج عيون الّتي ربّما تلاقينا فيها هناك أيضًا. ويبقى أنّ ركوب البحر والإبحار مع ’الفلوكة‘ كما فعلت عائلة تمام الأكحل (أمّ يزيد)، هو المسار المميّز لتهجّرنا ومهجرنا. تشاء الظّروف لاحقًا، ويا للمعجزة، أن نستعيد إمكانيّة الرّجوع إلى حيفا بعد قضاء سنتين من التّشرّد وفي مخيّمات اللّاجئين في لبنان، وقضاء سنة ونصف السّنة في جامع مهجور في حيّ الشّاغور، هو جامع الصّابونيّة في وسط مدينة دمشق القديمة، تلك المدينة الّتي بقيت فيها شقيقتي الكبرى لطفيّة وأبناؤها في مخيّمات اللّاجئين هناك، وفي مخيّم اليرموك تحديدًا، بعد أن باتت تملك أسرة مؤلفة من أحد عشر نفرًا وُلِدوا خارج الوطن الفلسطينيّ، وما زالوا حتّى الآن في مخيّم اليرموك حاملين في أفئدتهم حلم العودة إلى الوطن، طال الزّمن أم قصر. كان ذلك ضمن ما فعله أبونا قاسم عابدي الّذي لم يترك حيّنا، لكن ترك حصيرته القريبة من شاطئ البحر وأخذ يستنجد معارفه من ’الأشكناز‘، وخاصّة شريكه في تجارة الأبقار والخيل، ’حاييم شميد‘، أن يسعفاه وأن يسمح لنا بالرّجوع إلى حيفا. رجعت أنا وعائلتي الصّغيرة دون
شقيقتي الكبرى (لطفيّة أم العبد بدوان) المتزوّجة في الغربة، ودون العائلات الحيفاويّة العريقة، رجعت أنا وبقي ناجي العلي وإسماعيل شمّوط، معلّمي الأوّل، ومحمود طه وغسّان كنفاني وأحمد دحبور وتمام الأكحل ومحمود الكرمة وأبو سلمى وسميرة عزّام، وغيرهم من المبدعين الفلسطينيّين، بعيدين وقريبين من حدود الوطن، فلسطين…’[1]
.
زمان
توجد للطفيّة صورة شخصيّة بالأبيض والأسود داخل حيّز من القماش الأبيض، الّذي جاء عملًا طوليًّا يحيل مباشرة إلى النّصّ والسّرد روحًا كلّيّة للعمل، فهو أشبه بوثيقة أو مخطوطة قديمة تسرد تاريخ الشّخصيّة بتفاصيله. توجد حروف UNRWA، اختصار ‘وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللّاجئين الفلسطينيّين’، في أعلى العمل، عنوانًا للشّخصيّة، وهُوِيَّةً تحيل إلى اللّجوء. في حين تبدأ أرقام سنوات بالظّهور والتّتابع من أعلى العمل، مرروًا بحيّز مادّة الخيش، ثمّ تظهر على صورة الشّخصيّة، وتستمرّ حتّى الخروج من الصّورة إلى أرضيّة الخيش مرّة أخرى. سنة تلو الأخرى، هي زمن مسيرة النّضال والألم الفلسطينيّ منذ عام 1936، وهو العام الّذي انطلقت فيه ‘ثورة فلسطين الكبرى’ ضدّ قوات الجيش البريطانيّ والعصابات الصّهيونيّة، واستمرّت ثلاث سنوات.
تتتابع السّنوات والعقود في مسيرة أشبه بمسير مستمرّ لأفواج اللّاجئين. هذا البعد الزّمنيّ للعمل المبيّن من خلال السّنوات، هو وتد آخر لخيمة اللّجوء الفلسطينيّة الّتي لا تنحصر مشكلتها في فقدان الوطن والمكان الأوّل، إنّما في مرور السّنوات والعقود على هذا الفقد، والّذي يبدو أبديًّا كلّما طال. تتأكّد زمكانيّة المأساة من خلال اسم ‘مخيّم اليرموك’، الّذي يظهر على حيّز الخيش المُؤَطِّرِ للصّورة الشّخصيّة، في حين طُبِعَ أسفله رقم ‘1948’.
رقّةٌ في القسوة
لطفيّة الموجودة داخل تفاصيل غاية في القسوة، الزّمن والحرب وخشونة الخيش، تظهر سيّدةً غاية في الرّقّة والأنوثة، يحيطها الفنّان بقماش أبيض مُخرّم ومجدول، أشبه بالأقمشة الّتي تزيّن ملابس النّساء. هذا التّضادّ بين رقّة الأنوثة وقسوة المحيط، هي الجماليّة المتكاملة الّتي يقوم بها العمل الفنّيّ، والّتي تُسْتَلْهَمُ من الهويّة الفلسطينيّة القائمة بالتّضادّ نفسه بين حبّ الحياة وقسوة واقع الحرب والمنفى.
في النّصف الأسفل من العمل، توجد حقيبة بيضاء نسويّة يبدو عليها القِدَم، تبدو أشبه بـ ‘بُقْجَة’ اللّجوء، لكن شكلها ولونها الأبيض يوحيان بالأنوثة والجمال، في تأكيد مرّة أخرى على التّضاد؛ في حين تؤدّي الكوفيّة الفلسطينيّة، أرضيّة الحقيبة أسفل الصّورة الشّخصيّة، دورًا رمزيًّا يحيل إلى المقاومة الفلسطينيّة سندًا في الحفاظ على الوجود والهويّة. ينفتح مفهوم المقاومة على التّأويل الإبداعيّ، الّذي يتّخذ من الفنّ نفسه نهجًا يقاوم النّسيان والمحو بالتّذكّر واستمرار إعادة الاشتغال على هويّة تتشكّل بين وطن ومنفى.
صرامةٌ… لا وضوح
من فلسطين إلى سوريا إلى العراق، يكمل النّصّ البصريّ لعبد عابدي سردَ الحكايات عن مأساة تلاحق اللّاجئين اّلذين يعانون واقع البلاد الّتي لجأوا اليها. ‘ذيب علوّة’، عنوان عمل آخر يسجّل فيه الفنّان بخطّ يدويّ واضح حكاية ذيب علوّة، الّذي لجأ من قرية الطّيرة قضاء حيفا إلى الأردنّ ليقيم في مخيّمات اللّاجئين هناك، ثمّ انتقل إلى العراق حيث توفّي في بغداد، في حين توفّي كلٌّ من ابنه وابنته وحفيده خلال الغزو الأمريكيّ على العراق. توجد صورة ذيب وسط عناصر من التّراث الشّعبيّ والوطنيّ الفلسطينيّ؛ الكوفيّة السّوداء والحمراء، والخرز والمطرّزات، في حين يؤدّي النّصّ هنا دورًا صارمًا لا مجال لأيّ تأويل حوله؛ فهو نصّ قصير توضيحيّ يختزل حكاية هذا اللّاجئ منذ عام 1948.
غير أن النّصّ في عمل آخر للفنّان يعمل مرجعيّةً غير واضحة، يسرد مقاطع من حكاية قرية ‘سيرين’ قرب بيسان، والّتي دُمّرت بالكامل وهُجّر أهلها عام 1948. يسرد النّصّ تفاصيل عن القرية وطبيعتها، وما فيها من مقامات للأولياء وعائلات، وعلاقات بين تلك العائلات، وعن مشاركتهم في ثورة 1936، وحكاية تدمير القرية أخيرًا. تقطع النّصّ صفوفٌ عموديّة وأفقيّة من الخرز، تتقاطع مشكّلة حاميًا للذّاكرة، تلك الذّاكرة الّتي تستمدّ حضورها المستمرّ من جماليّات تراثها الوطنيّ والثّقافيّ، وهو ما تشير إليه أيضًا قطعة السّجّاد الملوّنة في منتصف العمل. وبين خشونة السّجّاد وجماليّات ألوانه المصفوفة بذوق بديع، تطّل الهويّة الفلسطينيّة في أعمال عبد عابدي البصريّة النّصّيّة بين حدّين: نصّ الذّاكرة البصريّة والوجدانيّة حول المأساة، والسّرد البصريّ للثّقافة والجماليّات المختزَلَةِ في الهويّة ولغتها
* نُشرت هذه القراءة في كتاب ‘تجلّيات الحَرْف: جماليات النّصّ في الفنّ الفلسطينيّ المعاصر،’ والّتي صدرت للكاتبة مليحة مسلماني عن مجمع القاسمي للّغة العربيّة – أكاديميّة القاسمي، ومكتبة كلّ شيء في حيفا عام 2015، والّذي ستنشر مجلّة فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقالاته تباعًا بالاتّفاق مع مؤلّفته
[1]. للرّجوع إلى كامل النّصّ الّذي يقدّم له علي بداون، ابن شقيقة الفنّان، انظر/ ي: عبد عابدي، ‘خواطر في السّيرة ذاتها بين المية مية وحيّ الشّاغور الدّمشقيّ وحيفا: في ذكرى رحيل الفنّان التّشكيليّ إسماعيل شمّوط’، الحياة الجديدة:
http://www.alhaya.ps/arch_page.php?nid=130457#عبد عابدي# لطفية# تمام الأكحل# إسماعيل شموط# اليرموك# دمشق# لبنان# حيفا# سلمان ناطور# 1948# النكبة# اللجوء# الشاغور