
الفن ليس فقط عاملا يثقف الجماهير ، ويهذب احساسها وذوقها الجمالی ، بل هو أيضا سلاحها في النضال . وللفن اتجاهاته ومدارسه
ومقاييسه . والواقعية الاشتراكية هي احدى هذه المدارس وأكثرها ارتباطا بمصلحة الجماهير وقضيتها ، اذ انها تعتبر الفن النتاج
الروحي العلاقات الانتاج المسيطرة في هذا المجتمع الانساني أو ذاك . وتأخذ بعين الاعتبار تقاليد هذا الشعب وخبرته التاريخية وذوقه
الجمالي ، كما تهتم بظروفه الاقتصادية والاجتماعية وبقضاياه ، وبمدى ارتباطه واستفادته من التراث الانساني هذا من ناحية ، ومن
العالمي ناحية أخرى فهى تشحذ هذا السلاح وتضعه في يد الجماهير التي لها الحق بالاستمتاع به واستعماله في نضالها . أي أن الفنان بحاجة الى اختزال المسيرة الانسانية كلها ، مرتكزا على تراث شعبه وجذوره ، للاستفادة منها في بحثه عن الاسلوب والصورة المتجددة ليتمكن في النهاية من ايصال فكرته الى الناس ، مساعدا على توحيدهم وجمع صفوفهم حول هذه القضية أو تلك . ونحن كمشاهدين في تعاملنا اليوم مع الفنان عبد عابدي
في معرضه ، الذي أقامه بيت الصداقة في الناصرة ما بين ال ٥ و ١٤ من الشهر الحالي تنطلق من هذا الفهم . ونحاول ما استطعنا الالتقاء بهذا
الاختزال » وبهذه « الصورة المتجددة » التي نريدها .
يصل عدد اللوحات المعروضة الى الاربعين وهي غنية بمحتواها الفنى والجمالي والنضالي . ويجمع هذه اللوحات معا موضوعان
الاول القضية الوطنية الواضحة . والثاني الموضوع الاجتماعي والنظرة الفلسفية اليه
ومن شاهد المعرض لاحظ الغني في استعمال الاداة الفنية وتنوعها ، فهناك لوحات الباستيل والزيت والماء ، وهناك اللوحات المحفورة على
الخشب ، واللوحات المرسومة بالحبر الاسود . وليس من الممكن استعراض جميع اللوحات والوقوف عند كل منها ، ولهذا يجب الاكتفاء
بالقضايا العامة والهامة في هذا المعرض . ولتوضيح هذه القضايا لا بد من الاستعانة باللوحات المرسومة بالحبر الاسود . فالملاحظ ان عبد
عابدي لا يعتمد فقط على التناقض أو « الكانتر است » بين الابيض والاسود في بعض لوحاته ، انما ينتقل بهدوء من الاول الى الثاني عبر اللون
الرمادي . أى بكلمات أخرى انه يعطى للوحاته أبعادا جديدة وهي الشحوب ، وهذا واضح في لوحتيه ( الخوف ) و (( الوداع ) . والملاحظ أيضا ان هذا الانتقال يختلف أيضا في كلتا الحالتين ، فبالرغم من ان لكلتا العاطفتين « الخوف » و « الوداع » أمورا مشتركة تتحدث عن الاحاسيس الانسانية ، الا ان الرسام في لوحة « الخوف » لجأ بالاضافة الى اللون الرمادي الى الخطوط السوداء العريضة التي أضفت على اللوحة أبعادا جديدة ، فالخوف بطبيعته يفقد الملامح الانسانية شكلها الطبيعي المعهود ويضيف قتامة اليها . بينما في لوحة الوداع التجأ الى الخطوط السوداء الرقيقة والخفيفة التي منحت اللوحة أبعاد الحزن الانساني
ولا بد هنا من التوقف عند لوحتين أخريين حول تل الزعتر )) ، فهنا يعتمد عبد عابدي كليا على التناقض ، ملتجأ إلى اللونين الابيض والاسود فقط ، وهذا الامر يجعل المشاهد يشعـــــــــــــر بالصرخة ، صرخة المحاضرين ،الصامدين أمام القتل ، ففى تعاملنا مع القاعدة البيضاء ننتقل الى أبعاد أخرى ، الى صفحة جديدة في تاريخ شعبنا واثباتا أن أمله سيتحقق . هذا ما تشير اليه القاعدة البيضاء ، بينما الدائرة ، التي تحيط بلوحة كفر قاسم ، تدل على الحلقة المفرغة التي دارت الضحية معها ، ولعلنا نذكر رقصة الموت » التي تحدث عنها اميل حبيبي في مقالاته حول هذه المجزرة .
يلجأ عبد عابدي ، في أغلبية لوحاته هذه ، الى الطبيعة مستفيدا من مادتها الخام ، وهو لا يأخذها فقط ، وينقلها الى المشاهد ، بل يطورها والدلالة
على هذا القول يكفي الوقوف عند لوحة (( ظهور النبي الجديد )) فبالرغم من أن الفنان استعان بأمواج البحر خام مادة الا انه طوره وقدمه لنا
بصورة جديدة كليا . لا بد من الاشارة هنا الى ان الرسم بالحبر الاسود يعطى المجال للفنان ليرد بسرعة على احداث وقضايا ملتهبة ، ولذلك فهذه اللوحات بحاجة دوما الى غنى في التعبير من ناحية ، والى رصيد ابداعی من ناحية ثانية اليتمكن الفنان بالتالي من الاستفادة منه واخضاعه للتحريض وهذا ما وفقت اليه هذه اللوحات .
ذكر في البداية أن هناك تنويعا في الاداة الفنية التي يخضعها الرسام عبد عابدی ليتحدث عن قضيته التي هي قضية شعبه ومجتمعه ، ولهذا لا بد من الإشارة الى لوحات الباستيل ذات الألوان الهادئة التي ترتاح العين الى مشاهدتها وتجذب الانسان اليها ليغوص في العمق الانساني الموضوعها .
فمثلا لوحة ( شهيد يوم الارض )) فهذه اللوحة لا تعبر عن موضوع « الشهادة ) ولا تعالج فقط موضوع « الموت » فالشهيد ليس غارقا بدمه
القاني ، بل يمتزج بلون تربة هذا الوطن ، ويتحول الى يد ترفع وردة في شباك يرتكز في أعلى اللوحة . هذه النافذة بالمنفتحة على الأفق البعيد حيث
ضربات الفنان ذات اللون الازرق تعطينا الفهم ، والايحاء ا الصادق بأن المستقبل لنا نحن الاهل الشهيد وأحفاده. ونقتنع بأن ( الشهادة » هي تعبير عن قضية المستقبل التي علينا أن ننقذها من أشداق الظلم ، كما تان ( الموت » هنا يتحول الى امتزاج بالارض . هناك عمق ت فكرى فلسفى في هذه اللوحة نشعر بمثله في لوحة الشيخ والطائر الجريح )
ان معرض الرسام عبد عابدي في الناصرة هو مظاهرة القضايا جماهيرنا الاجتماعية والقومية ، والتي هي جزء لا يتجزأ من مأساة شعبنا العربي
الفلسطيني المقيم منه والمشرد وكلها تعبر عن انتصار قضية هذا الشعب العادلة ان الاقبال على المعرض يظهر أن الفن النابع من القلب والذي يخدم قضية عادلة ،يلقى الصدى والتجاوب لدى الجماهير . لقد وفق عبد عابدی بايجاد الاسلوب والصورة المتجددة لايضاح فكرته
ولخدمة قضيته
عفیف صلاح سالم



