تخصص الفنّان عبد عابدي بدراسة الحفر والطباعة الفنيّة، ومن ثم بتصميم الجداريات العامة. عاد من ألمانيا الشرقية بعد مضي سبع سنوات إلى حيفا ليسخرطاقاته الابداعيّة فيتأسيس فضاء جمالّي ملتزم بقضايا المجتمع العربّي.واصل تعبيره الفني عن معاناة أهل الأرض والمشاركة في تجسيد أحلامهم في فترة حاسمة من تاريخ صراعهم مع الدولة العبريّة. تتكون معظم أعماله من المناظر والشخوص، تلقي الشخصيّة داخل المنظر العديد من الشكوك. تشعر أنها على وشك القفز من سقف إلى آخر، وقد نقرأ هذهالحركة كنوع من الرقص الشرقّي،أو كطفل يطّير طائرة ورقيّة،أو ربما شخصيّة تنظر نحو حدث لم يشر إليه الفنّان في لوحته، أو صورة رجل قديس واقفًا يخطب بالناس، كأن الحياة توقفت، تنتظر لحظة حاسمة. لكن، رغم الاحتدامية التي تبثها أعماله، نشاهد فيها أناس يحلقون كالملائكة، ملائكة في سماء حيفا، في سماء فلسطين، وطائرات ورقية تحلق في الهواء، طفلا يمسك طرف خيط مربوط بالطائرة. طفولة تتجاهل الحدث، نوعًا من التناقض الحاد الذي يحاول تقديم المشهد إلى حد التعبيرالإنساني والشاعرّي رغم الحدث.ففي إحدى أعمال توثيق المناظرنشاهد رسًما أحاديا لألوان، منظرًا لوادي النسناس، نظرة من أعلى وشخصيّة تقف وسط الإطار كأنها تحتضن المنظر، أو تريد أن تكون جزءًا منه. يسقط اللون الأحادي بين حالتين، بين الوضوح والغموض، بين انعدام اليقين وبين الاصرار الذي تشير إليه الخطوط والرسم الحاد، نوعًا من المشهد السريالّي، الحالم الذي يرافق ذكريات الفنّان .ويعتبر نفسه جزءًا منه
يتعامل الفنّان مع المنظرالطبيعي والمنظرالحضرّي تحديدًا، توظيفه وتفكيكه، ليعطيه أبعادًا سياسيّة. إنه يحمل مفردات وإنشاءات أيديولوجية مختلفة: الأرض، المكان، الوطن، الحنين والذاكرة، من خلال مزج الجوانب الجماليّة للمنظر. فعندما يقترح الفنان هذا الموضوع، فهو لا يقترحه، أحيانا، باختياره هو، و إنما كأمر قد فرض عليه بفعل إشكاليات اجتماعية أو سياسية. فالفنان الفلسطيني الذي يعيش في واقع يضج ّ بالتطورات والممارسات السياسية ضد الأرض والمكان وتزويرالتاريخ والحقائق ومحو الهوية وتذويبها، لايملك “متعة”رسم المنظرالطبيعّي لمناقشته وتحليله فنيّا وتشكيليّا من باب الفن الصرف، أي “الفن لأجل الفن”، أو الرسم لأجل إقامة حوار مع تاريخ الفن، بل يرسمه ليتحد معه، وليجعل نفسه والعمل والمكان خلطة واحدة
لقد احتلّ المكان المساحة الأكبر في لوحات الفن ّان عابدي. فقدمه لنا بطرائق شتى وأساليب مختلفة.ليقدم مشاهد متنوعة يتجلى فيها ارتباطه بالمكان وأشيائه الصغيرة والحميمية ومكوناته المتعددة: نافذة، سجادة، ستارة، بيت، سطوح البيوت وأقمشة مطرزة – الأمر الذي يؤشر نحو العلاقة بالمكان كدلالة ماديّة وروحيّة لتؤكد على الانتماء.
عانى الفنّان الفلسطي ّني في مختلف أماكن اقامته وتواجده، ولا زال يعاني، من تسرب المكان من بين يديه ومن تحته ومن خلفه. يتمثل هذا التسرب بالاحتلال المتواصل والاستيلاء على المكان ومكوناته. كما أن الأمكنة الأخرى خارج الوطن منافي لايجد فيها الأمان والاستقرار، بل يعاني دائما من عقدة الخوف والاضطهاد والتغريب. يلتصق عبد عابدي بالمكان التصاق الجنين بالرحم ليترجمها كدلالات في أعماله بصورة واضحة، معتمدًا على رسم شخوصه متراصة ومترابطة وثقيلة على الأرض، كما ويبدو ذلك أيضا من كثافة الألوان المتناقضة.نراها أحيانا صاخبة وداكنة، وأحيانا نشاهد مشحات لونية حّساسة ،روحية وشفافة ،والتكرار الذي بات مثيرًا للفضول بالرغم من تكرار الأشكال في العديد من الأعمال الذي قد يكون مملا عند فنّان آخر
فريد أبو شقرة.
.
.