بقلم: روضة غنايم
رسم ونحت وصمم وحاضر في موضوع الفنون والفن التشكيلي خاصة، الفنان عبد عابدي ابن مدينة حيفا، رسم في مجالات الرسم الإيضاحي ( السيتراسيون)، وأقام أنصاب تذكارية، واشهرها النصب التذكاري لشهداء يوم الأرض في مدينة سخنين.
ضمن مشاريعه الفنية أقام معارض عديدة بعناوين مختلفة، منها المعرض المتنقل، بموضوع : (حوار بين المرئي والُمستتر) الذي يحاور فيه بصرا من خلال الباب والشُباك كحيز حواري مع الشبابيك العتيقة في وادي الصليب وحيفا التحتا ،ومناطق أخرى مختلفة .استوحى إيحاءاته بحسب قوله، كونه ولد أبا عن جد في المدينة التي انتكبت عام 48، يحاور عابدي الصمت الذي تركه الفراغ، من بيوت وأماكن عاشها في طفولته، وهذه الأماكن أدخلته ضمنا إلى عالم الغرفة المظلمة ، (كاميرا اوبسكورا–الغرفة المعتمة) ليكتشف أن بداخلها أسرار كانت محفوظة . حينها انكشف له أن هدم المكان وطمس وإخفاء معالمه تبقى ذكرياته واضحة جلية لا يمكن زعزعتها أو تغييرها
جوارير مبعثرة في حارات حيفا العتيقة
من خلال زيارتي لمرسم عابدي هذا الأسبوع ، لفت انتباهي واثارت انتباهي وتساؤلاتي سلسلته الجديده من أعمال الجوارير،من أين آتيت بهذه الجوارير ؟ ماذا تعني لكَ؟
إجابته أثارت فضولي أكثر عندما قال : “جمعت ما يقارب عشرين جارورا ،عن فكرتها وماذا تعني لي سأحدثك بعد أن نذهب سويا لرحلة بحث عن جوارير مبعثرة أخرى في حارات حيفا العتيقة“، لم يكن لفضولي غير قبول الفكرة ، بدأنا أنا وعابدي المشوار من وادي النسناس، حيث زُرنا بقايا جدران بيت “بديعة المجنونة” ، ثم تابعنا لكنيسة السيدة في البلدة التحتا، وشاهدنا هناك عمل لعابدي وهو عبارة عن فسيفساء على جدار باب الكنيسة ،واطلعنا على جارور التراث الذي جمعة مؤسس (بيت النعمة) المرحوم كميل شحادة ، وهو عبارة عن أواني وأغراض تراثية جمعها من جميع أنحاء فلسطين. ثم تابعنا لوادي الصليب مررنا ببيت النخلة وتجولنا خلف البيوت لنصل بيت رنو ،الذي سكنته عائلة عابدي قبل 48، ومن ثم مررنا بحارة الكنائس وذلك لكثرة كنائسها، حيث نشأته، واطلعنا على مكان الخان الذي كان يملكه والده، لنصل سوق الرابش حيث وضعت هناك أبواب وشبابيك ودرابزين خلعت أو نهبت من البيوت العربية وهي جوارير عتيقة أخرى مبعثرة في المدينة، من وادي الصليب وأصبحت للبيع! لنصل أخيرا إلى شارع الخياط حيث بيت جد عابدي المتبقي بين البنايات الغربية . وعودة إلى مرسمه في شارع الجبل. كانت رحلة شيقة ومثيرة جدا في الأجواء الشتوية الماطرة ، بعد أن عدنا من الرحلة الشيقة إلى المرسم ، فتح عابدي ثلاثة جوارير أمامي وهي:
جوارير الطفولة
يتذكرعابدي في طفولته أن عائلته امتلكت” بوفيه” قديم، يشمل مرٌاه ضخمة بتوريق خشبي على جوانبها. يعني البوفية لعابدي كمكان لتجميع الأوراق والمستندات، وحفظ الصحون (ألصينيه). يقول “اذكر أن البوفيه في سنوات الخمسين المتأخرة أصبح يشكل عبء من مساحة البيت ألضيقه وكان مفروض من والدتي أن تبيع البوفيه لمشترين يهود“. ومن هذا اليوم لمعت فكرة الجوارير لدى عابدي. حين نزح البوفيه وتبعثرت محتوياته داخل البيت الضيق ، كانت تحوي جوارير البوفيه على بقايا شهادات ولادة– نفوس مُحترقة نوعا ما وبالية . وفي جيل الفتوة أدرك عابدي أن شهادات النفوس هي الوثائق الباقية من البيت الذي سكنه في أيام الانتداب البريطاني في القسم الأعلى من وادي الصليب منطقة حارة الكنائس.
يقول عابدي مضيفا “تبين فيما بعد أن والدي أثناء الهجرة والتشرد من الأحياء العربية في حيفا، الكثير ترك الأمتعة والأثاث وحتى القهوة على النار . وكان والدي بعكس الآخرين ،حيث أصر على البقاء وبقي مع من تبقى من مواطني حيفا (حسب التسجيلات في وزارة الداخلية فان عددهم يتراوح 2800-3000 من اصل 70000 )، وحين عاد والدي أثناء غيابنا من المهجر إلى البيت ليحمي بعض ما تبقى من أثاث وحاجيات هناك وجد رجل يهودي متدين في داخل البيت يعبث في محتوياته عندما طلب والدي منه الخروج من البيت اشهر الرجل اليهودي المسدس في وجهه وتركه خائبا“.
عودة للجوارير في عام 92
يقول عابدي: “عندما توفي والدي في جيل الرابعة والتسعين من عمرة عام 1992 أبقى في الجارور المصنوع من البلاستيك الرخيصة بعض محتوياته الشخصية ومنها المسبحة والنظارات وبقايا نقود ورقية لا تتعدى قيمتها ألان المائة شاقلن وهوية إسرائيلية رقمها3000- 2 أي انه حين تسجيل السكان كان هو الثالث من بين العرب الذين حصلوا على هوية . إن ذلك المخزون يبدو انه لا يحوي شيء ذو قيمة. لكنه شكل بالنسبة لي دلالات لحالة وضعنا ، فيما بعد شهادات النفوس التي كانت في إحدى الجوارير، الذكريات المجمعة في داخل الجوارير لم يكن لها الأثر في عملي، سوا الجارور نفسه شكل لي مكان لذكريات صامته“.
عودة للجوارير في عام ال2000
يقول عابدي: “في بداية القرن ال 21 وبعد وفاة جارتي، أرمنية الأصل وفيما بعد زوجها في وادي النسناس ، أثارني ما تبقى من محتويات البيت جروران تُركا عند حاوية القمامة ، أثارني وضع الجارورين بمحتوياته هي عبارة عن بقايا أزرار وُكشبان بقايا الخياطة ومواسير الخياطة وبقايا صورة فوتوغرافية عندما كان الجار في شبابه“، كان هذا المشهد البداية والمحفز إلى موضوع “الكومودينا” أو البوفيه التي كانت في حيز البيت الصغير في شارع الوادي في بيت عمة والده قاسم .
من مجموعة جوارير مصممة نذكر ثلاثة منها
جارور الذكريات
هذا الجارور يجمع أوراق في كتاب ُمحترقة صممت على خلفية معدن الرصاص إلى جانب عقد لؤلؤ وملاك من زجاج من بلاد التشيك أطلق عليه اسم تكريم لشخصية بديعة المجنونة ، يقول: “المعذرة لجهلي اسم عائلتها التي ورد ذكرها في سداسية الأيام الستة وقصة (أم الرببيكا )للكاتب إميل حبيبي، في رموز مع اللوحة التي كان يجمعني مع مادة الرصاص، المادة التي كانت تستعمل في صقل الأحرف، في نص طباعة جريدة الاتحاد في سنوات الستينات والسبعينات وكذلك عقد الؤلؤ التي كانت بديعة تتزين به حين تجوالها في الحارة ُملاحقة للأطفال الذين كانوا ُيلاحقونها وأنا واحد منهم” .
جارور الأقنعة
استعرض عابدي في عملة هذا عن طريق استعماله قناع من احتفالات الكرنفال الشهيرة في مدينة البندقية ، يجسد به ملامح ” وكأنها غير قابلة للزوال” بقناعة بحتمية زوال الجسد لكن ببقاء الروح الجميلة التي تبقى في الُمخيلة أبدا ، العمل يترابط مع رغبة الفنان في جدلية مستمرة في موضوع الجمال والقبح بين الفاني والباقي، بين الخير والشر، والحب والكراهية.
جارور البلاطة من وادي الصليب
يستذكر عابدي أثناء عرضة لأعمال الجوارير بذلك الجارور الذي يستعرض فية بلاطة من أطلال البيت الذي سكنت به عائلته، وهو بيت عائلة رنو.عرف في أثناء شرح شقيقته أن قسما من طفولته قضاها في تلك البيت، فما كان منه أن اخذ البلاطة ووضعها في موضع الجارور أثار الأقدام ، إن للبلاطة مكان يؤرخ المكان والزمان إلى جانب ميزة البلاط الذي زين أرضية البيوت العربية في يافا، حيفا، نابلس وعكا .
أدبيات الجوارير في العالم
وردت الجوارير في الكثير من الأدبيات الأوروبية وخاصة أدبيات القرن الثامن عشر في ايطاليا منها شخصية كزنوفا (العاشق الفاجر)لفترة زمنية التي استبد فيها الفجور،حيث أودع أسراره وأسرار عشيقاته في داخل الجوارير التي تسمى( بجوارير السكرتير).
كذلك حالة إعدام احد قادة ثورة البسطيل الذي اتهم بغدر الثورة. وهو أمام (الجلوتينا– المفصلة) تبين أن الرجل لم يكن خائنا بل مدافع عن الثورة استخرج من جوارير بيته الشهادات الدامغة لبراءته.
خالته وجارور المنفى
أثناء لقائي مع عابدي تلقى خبر وفاة خالته زبيده نايف الحاج ، في عمان، وهي الخالة الأخيرة للفنان التي دفنت في عمان أما خالاته الأخريات فدفنت الأولى في طرابلس بلبنان والثانية في دمشق ووالدته في حيفا . وهذا التوزيع هو نتاج تشرد شعب بأكمله عام النكبة .
هذا الخبر جعل عابدي بفتح جارور اخر والحديث عنه
يقول : “وفاة خالتي زبيدة ولقائي معك ، ذكرني باللقاءات التي كنت أجريها معها في عمان وكانت دائما تسألني عن كواشين الأرض والبيوت التي تملكها عائلتها، عائلة الحاج، في قرية كفر لام المُهجرة في ساحل حيفا .حيث كان عمها عبد الرحمن الحاج رئيس بلدية حيفا . كنت أجاوبها باستغراب أن الوطن راح..راح.. وان تلك الكواشين يا خالتي هي في عداد ما يسمى أملاك الدولة.
قبل 5 سنوات زرتها في عمان على اعتبار ان لا سؤال في الموضوع الذي جاوبتها لكنها ألحت من جديد وطرحت السؤال. عند عودتي من زيارتها عملت لوحة أسميتها تكريم لخالتي أم سهيل حيث وضعت في داخل اللوحة أوراق ملفوفة على شكل كواشين وبساط محاك بشكل يدوي . ألان بعد تلقي خبر وفاتها اهديها لروحها الطاهرة
كواشين تكريم لخالتي اللاجئة في الاردن
” يعرض أمام المشاهد قطعة قماش تقليدية تمت خياطتها من ألوان أساسية قوية .يستعمل هذا القماش لتغطية ظهور الحمير والجمال. وتوجد فوق القماش اسطوانات من الخيوط الملفوفة تستعمل في حياكة الغطاء الملون. نظرة ثاقبة بصورة اكبر تكتشف أن لفافات الخيوط الملفوفة تستعمل في حياكة الغطاء الملون . نظرة ثاقبة بصورة اكبر تكتشف أن لفافات الخيوط هي عبارة عن كواشين لبيوت من عام 48 وتم لفها بخيوط رفيعة مشابهة لكفن الموت. النظرة إلى النسيج كحيز مجندر تجسد التشبيه المقولب الشائع الذي يربط ما بين الحياكة والنساء، إلا انه يشحنه بتجربة اللاجئين والتهجير .النسيج الذي يغطي ظهور حيوانات النقل والسفر يمنح العمل كله بعدا مجازيا يرمز إلى المكانة البيئية للاجئين وثقافة الحياكة التقليدية التي ميزتها. يرمز عمل الحياكة حتى إلى الدور الذي لعبته كتلة الخيوط في الميثولوجيا اليونانية. وحسب الأسطورة اليونانية فان ملك أثينا تيسيوس عندما ذهب إلى كريت فقد ساعدته اريادنا إذا أعطته خيطا يعينه على الخروج من المتاهة،وبالتالي فقد تحول الخيط “النسوي” إلى علامة هامة على طريق تحقيق الخلاص” (كتالوج معرض مهارات يدوية ). 2007
الجوارير هي قضية ليس فقط لحفظ التراث ، بل تُشكل عامل استشهادي تساؤلي وفيه إثارة لما كان يحويه التاريخ من أمور شخصية . الجارور له قيمة مضافة، في داخل الجارور يكمن الكثير من الأدبيات التي تناولها شعراء وكتاب وروايات تتعلق في محتوياته . وما الجارور سوى صندوق ذكريات أزلي يروي قصصا شخصية لإفراد عاشوا في هذا المكان لينقل لنا قصة شعب صامد يصارع التاريخ ويأبى النسيان.
المقالة نشرت في صحيفة المدينة
16.1.12