
العددان السادس والسابع من مجلة الجديد، تموز 1984
عبد عابدي
انها في الواقع ، المرة الأولى في تاريخ الندوات التي أقمناها ونقيمها ، والتي نطرح فيها على جدول أعمالنا الفكرية مسألة الفنون التشكيلية ومسارها في إطار حركتنا الأدبية داخل الوطن وخارجه. وفيها أصبحت هذه الحركة الفنية جديرة بأن تكون أحدى دعائم البناء الثقافي الذي بدأنا بوضع أسسه وترسيخ بنائه ، وفيه اعتمدنا على الوسائل البسيطة والقوى القليلة العدد التي باشرت بهندسته من أجل ان يكون شكله ومضمونه عاكساً جوانب حياتنا
الاجتماعية والفكرية قد أبالغ إن قلت ان بداية مسارنا الفني بدأ من الصفر إذا ما قيس بالسنوات والأشهر كوننا جيلاً شاباً ، وأستطيع أن أحدد سنوات نشأتنا الفتية بسنوات الخمسين المتأخرة ،بإقدام بعض الفنانين الهواة على طرح أعمالهم الجديدة أمام الجمهور .وأذكر بعض الأشخاص منهم جمال بياري من يافا الذي أفردت مجلة «الغد» في حينه صفحاتها للكتابة عن الفنان وعن المستقبل ، ذلك المستقبل الذي أدى إلى موت هذا الفنان
بعد سنوات قليلة من بداية عمله . وكان هناك فنان آخر هو ابراهيم ابراهيم من الرينة الذي كان الأول فينا بدخوله كلية الفنون الجميلة بالقدس ، مكث بيننا سنوات قليلة ثم هاجر الى الولايات المتحدة . وأذكر فنانين آخرين منهم عبد يونس الذي أنهى دراسته في «بتسلئيل وهاجر الى اليابان ، والرسام ابن الناصرة ظاهر زيداني الذي رجع إلى ألمانيا الغربية بعد دراسة طويلة هناك . ومن ثم كنت أنا عندما أقمت معرضي الأول في تل أبيب سنة ٩٦٢
و سافرت الى ألمانيا الدمقراطية للدراسة الفنية لكنني لم أهاجر ، فبعد مكوثى هناك لمدة سبعة أعوام رجعت حتى أساعد في وضع الأسس مع زملائي لبناء هيكل الفكر الذي نطرحه من خلال واقعنا في هذه البلاد ما هو الواقع وما هو واقعنا في هذه البلاد ؟
هناك في الحقيقة واقعان ،
الواقع الأول اننا بدأنا نمارس هواية الفن في فراغ حضاري وجفاف اجتماعي بيئي كاد يقض على نمو براعم الفن المستقبلي ، لولا احتضان وسائل الاعلام الصحافية للحزب الشيوعي . جريدة «الاتحاد» التي أبرزت اللوحات النضالية على صفحاتها الأولى ، ومجلة «الغد» ومجلة «الجديد» التي أفردت صفحاتها من الداخل الى الغلاف لتعريفنا على الفن التشكيلي وأعمال الفنانين الملتزمين بقضايا شعبهم ، وطرح وجهات النظر الفلسفية بضرورة التزام الفن الشكل والمضمون وبروز الفن عاملا هاما الى جانب الأدب في التعبير عن مشاكل المجتمع وفي معارك الجماهير السياسية والفكرية .عن طريق مجلة «الجديد» تعرفنا على أعمال الرسام الاسباني الخالد فرنسيسکو چويا الذي قارع الاحتلال الفرنسي لبلاده ، هذه المادة كتبها وقت ذاك المربي نمر مرقس ، وكذلك المقالات النقدية لبعض المعارض والاتجاهات الفكرية في الأدب والفن وعلم الجمال كتبها
مواكبو كتاب «الجديد» منهم الدكتور اميل توما وجبرا نقولا ، وحنا ابو حنا وعصام العباسي واميل حبيبي وتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وصليبا خميس . عن طريقهم أيضا تعرفنا على فروع شجرة العائلة الفلسطينية والجذور المبعثرة في أرجاء العالم ، تعرفنا
على فن اسماعيل شموط ، وعلى ابراهيم هزيمة الذي التقيت به حين كان في سنوات دراسته الأخيرة وكنت انا حين ذاك في بداية دراستي . ومن الصدف أيضاً أن أكون تلميذاً عند الفنانة الألمانية ليئا غرونديش التي نشرت «الجديد» عنها مقالاً مترجماً
أما الواقع الثاني ، فينقسم الى عاملين الأول هو ان مجتمعنا الفلسطيني ، ما زال يطرح الأفضليات في نموه الحضاري والاجتماعي
وتبقي مسألة الفن التشكيلي مسألة تذوق الأشخاص ومحصورة في الأطر الضيقة ،
وتبقى أيضاً المعادلة المطروحة في ان الفن التشكيلي سلاح بأيدي الجماهير المسحوقة ، فارغة من المضمون طالما لم تطرح بشكل جدي المسار الذي نريده من الفن والفنانين وان نعرض على الكادر الفني السبل الكفيلة ببقائه فناناً مبدعاً طيلة أيام الأسبوع وليس في المناسبات .
ذلك العامل يطرح المطلب الأساس بالنسبة لجهاز الدولة من وزارة معارف ومدارس ثانوية وابتدائية ونوادي ومؤسسات حكومية أخرى ، في ان تتعامل مع الجمهور العربي معاملة متساوية وفي إلغاء التمييز القومي اللاحق بنا ورعاية الأدب والفن العربي ليس من
خلال ما يسمى «أسبوع الثقافة العربية في الخيمة البدوية ومع القهوة والهيل والشهامة والكرم ، بل من خلال فتح المؤسسات الفنية أمام مواطني الدولة مثل المتاحف والتعليم في الجامعات وإشراك الفنان العربي في ورشات فنية تابعة للدولة لقد تحقق إنجاز هام خلال السنوات الماضية عندما حققنا هدفا بإدخال العديد من الفنانين العرب الى رابطة الفنانين والنحاتين العامة ، واعتبرنا ذلك فكا للحصار الحضاري المضروب حولنا ، واستطعنا مع الأعضاء العرب في الرابطة وبالتعاون مع الفنانين التقدميين أن نتضامن مع فناني المناطق المحتلة بإقامة المعرض المشترك والذي يعد عملاً ضخماً من حيث المشاركة الفعالة للفنانين في المناطق المحتلة وفي اسرائيل عربا ويهود . وطرحنا الإمكانيات في اجتذاب عناصر فنية يهودية للتضامن معنا وعلى المستويات المختلفة لقد دخل رابطة الفنانين مجموعة شابة ونشيطة وهم كميل ضو وأسد عزي وخليل ریان وسعاد نصر وتريز نصر وميخائيل توما وداوود حايك . وهناك إمكانيات جديدة لإدخال فنانين جدد الى هذه الرابطة ان هذا الكادر الذي نما وترعرع في أواسط السبعينات يتحمل المسؤولية الكبيرة في طرحه المهام والسبل الكفيلة بنمو المدرسة التشكيلية على ضوء بعض الانجازات التي تحققت وهي ان الفن التشكيلي أصبح جزءاً هاماً في البناء الفكري والأدبي المحلي ، وان الاهتمام الاعلامي بهذه الانجازات عن طريق المعارض المقامة في الخارج واهتمامات
الدارسين بفننا المحلي والفلسطيني يشكل عاملاً هاماً ومشجعاً .
لقد كتبت الدراسات الهامة في أكثر من بلد حول تطور الفن الفلسطيني منذ نشأته ويبرز ذلك في أبحاث البحاثة الألمانية كارين روروانس ، والكتاب الذي صدر حديثاً في الاتحاد السوفييتي حول المضامين الانسانية للفن الفلسطيني ، والمقالات التي كتبت في مجلات ألمانية وتشيكية ويابانية وفنلدية ويوغوسلافية وغيرها يبرز ذلك التضامن مع هذا الفن المتجه قدما مع شعبه ان السبل الكفيلة بإحراز انتعاش الحركة التشكيلية هو بمدى استيعاب مؤسساتنا الاجتماعية ومجالسنا المحلية والشخصيات الاجتماعية لهذا الفن ، وفتح مجالات العمل في الورش المختلفة مثل إعطاء المجال للنحاتين العرب بإقامة الأنصاب التذكارية والتماثيل ورسوم الحائط في مدننا وقرانا .
هناك إمكانات يجب استغلالها ، وان يكون تعاملنا مع فنانينا نابعاً بالأساس من الشعور بالمسؤولية تجاه تطور العمل الإبداعي وان كادر الفنانين هذا ، هو جيل المستقبل يجب رعايته ومده بسبل الحياة كي يتطور ويطور . ومن الواجب على مؤسساتنا الوطنية السعي لإقامة المتاحف والمعارض كي نحمي تراثنا وحضارتنا من الضياع وان نصون أعمال فنانينا
لقد أصبح هذا المطلب ضرورة هامة من أجل تطورنا الحضاري والثقافي وجميع الحلول الوسط لن يكون بمقدورها ان تساهم في هذه الورشة الحضارية التي تطرح نفسها الآن بكل جدية
أشد على أيدي المبادرين لإقامة هذه الندوة الهامة بهذه المناسبة التاريخية ، أملاً ان نكون قد أسهمنا جميعاً ببلورة آفاقنا المستقبلية وهندسة هيكل الحضارة التي نبنيها كي تتوافق شكلا ومضموناً مع مسيرة شعبنا الفلسطيني .

