
تشارلي …تشارلي …تشارلي شابلن ، هذا الاسم الذي رددته الانسانية لعدة اجيال ، للرجل الذي حمل الكرة الارضية وأدارها في محور الاصبع فضحك العالم .. وضحك … حتى أنهمرت الدموع وتحولت الى دراما انسانية لن تمحى من ذاكرة الانسانية في ((لقطة)) من صندوق العجب الفضى
الذي تركه لنا تشارلي شابلن في طريق السينما الطويل التي فقدته قبل مدة وجيزة ، لكنها لن تفقده في عبقرية انسان ترك آثار لن تمحى ـ
خلد .. فخلد
الابيض والاسود فى حياة فنان *
كثيرون من نقاد السينما والمسرح ،ربطوا الصلة بين اعمال تشارلي شابلن السينمائية وماضيه التعيس في زوايا الفقر في حارات لندن البائسة.
وكان من زعم أن حالة الفقر الشديد حتى الجوع ، هي المسبب في بحث الفنان عن وسائل يصبح بها غنيا .. !!و تمادى احد المنقاد عندما قال :
ان شابان لم يكن راغبا في أن يصبح ممثلا . المهم عنده ان يصبح ثريا .وقد درس شابلن الموضوع بجدية في أثناء وجوده في أمريكا ورغب في
ان تكون له مزرعة للخنازير فى جنوب أمريكا !بيد ان المشاهد المذكى الذى شاهد افلام شابلن الخرساء)) يجد ان الاقوال المنسوبة اليه هي
لقطات من مزارع» المجتمع السوبر برجوازي والتي تعيد الى الاذهان صورة المزارع التي قيل عنها ان الاصالة التي تمتع بها شابلن
تتمثل بالصدق والارتباط بالماضي التعيس الذي عاشه وانعكست صوره على العمق الحاد للابيض والاسود ،في مسيرة المتسول الذى وضع نفسه ،
وفي جميع افلامه في موضع المدافع عن المظلومين والمضطهدين والمسحوقين من قبل الاغنياء المتطفلين الذين عاشوا على اكتاف الآخرين . فهو يسرق الخبز ليطعمه لمن هو اتعس منه .ويتغلب على رسل السلطة العمالقة ،المرسلين لحفظ النظام ))+فهو يتحدى ويجابه ، وعندما يشعر
أن القوة لا محالة ستلقى عليه المقبض ، يتحايل ، وينتظر في حالة من اعادة التفكير وبناء الاستراتيجية) من جديد .. ان الجوع …
هذا الجوع الذي سيطر على طفولة تشارلي في احياء لندن الفقيرة ، والذي اضطره في حداثة سنه الى بيع المشريط الاسود الملفوف على اكليل الزهور
الموضوع على قبر والده الذى استطاع أن يعيش ٣٨ سنة فقط ،قد جعله ينظر الى مسألة المفقر ليس بمنظار من يترجم بل برؤية المعلم
والموجه في ديالوج) حياتي ذي ابعاد عميقة فهو يقول ، عندما زار وصديقه أحياء الفقر في مدينة لوس انجلس :أن الرغبة في وصف الأفقر الأمر
مزعج . أنني لم أقابِل حتى الآن شخصًا يميل إلى الاعتقاد بأن قضية كقضية الفقر والجوع هي من صفات المحرية . ولا أعتقد أن المفقر هو من
الصفات الجذابة والمثقفة ، بل على العكس فإن حالة المفقر قد وضعت نصب عيني المفارق الكبير بين المطبقات المسحوقة والمطبقات المرفهة
إذن فهو يثور على الجوع والفقر والمبؤس بتحدٍّ و اقتناع بهدف تغيير الأمور نحو وضع أفضل ، وفي القضاء على مسببات التعاسة وليس بدافع
الشفقة كما ظهر ذلك لدى الكثيرين من أدباء وفناني فترة الرومانطيق» في أوروبا في القرن السابع عشر . فهو ،أي شابلن ، يتفاعل مع كل قضية
جديدة وينفرد في إعطاء الحلول حتى ولو ظهرت في إطار المسذاجة والمبالغة كما ظهر واضحًا في فِلمه « الفتى الذي يُظهر شخصية
ونفسية العاطل عن العمل والذى لا يملك القدرة على رفع يده على السلطة ، لكن باستطاعته أن يكسر نوافذ البيوت بصحبة الفتى حتى
تجيء ((المرزقة» من عند الرب والهدم عند العاطل عن العمل يختلف بتركيبه البسيط والطيب عن « هدم العالم ، وليأتي من بعدى المطوفان
كما هي في تركيب ومعتقدات ومبادىء اعداء البشرية الرأسمالية المتطورة . فهو أيضا ، ای شابلن ، يربط المشكل ربطا وثيقا وعضويا
بالمضمون ومفهوم الجميل والقبيح وبلورة المتراجي كوميدي في اعمال ظهرت على مدى واسع من العمق والتعمق وهذه الاعمال تركت عميق الاثر
على اعمال الكثيرين من رواد المواقعية في الفيلم الايطالي ، من بينهم فيتوريو دی سيكا في فيلم سارقو الدراجات و الترجيديا الأمريكية المكاتب
در ايسر وفیلم نقاش مسافرين للكاتب ميلر وغيرهم والان من المواجب ان ترجع ، ولو قليلا ، الى بعض ملامح السينما في ظهورها الاول لنعرف كيف عمل شابلن في ظروف غير عادية ، حتى تتبلور المصورة عن شكل ومضمون السينما الصامتة التي عانت من مشاكل ليس بمقدور المخرج ان
يتخلص منها وهي قضية التكنيك
السينما ، متى نشأت ؟ *
من المعروف أن تاريخ السينما والفن السينمائي ظهرا مع مطلع هذا المقرن . وقد نقل الفن السينمائي العوامل الهامة للمسرح الى الشاشة
الفضية بمساعدة المتكنيك الذي لم يتوفر من قبل على المسرح ، مثل الاضاءة وقطع المديكور كبيرة الحجم وغيرها من الاشياء التي افتقر المسرح
اليها وقد اعتمدت السينما في بداية هذا المقرن اعتمادا اساسيا ليس على تصویر اسلوب عمل المسرح وتطويره وحسب ، بل على أسلوب (المستيرا))
و ((المكوميديا)) وان اقتصر هذا الاعتماد على موضوع الهزل فله من المسببات الكثيرة ، ومنها ، وهو الاهم ، ان تكنيك الصوت لم يكن معروفا انذاك ، فعوض عنه اما بزخم المشاهد وتطوير الديكور ، كما ظهر ذلك في الفيلم الإيطالي ملحمة الأوديسا ، المذى يعتبر من الافلام الناجحة في ذلك
الوقت ، أو بالاعتماد على شكل الطرافة») بواسطة المشاهد المساخرة والمضاحكة وتركيب المشاهد حتى تصبح مفهومة . ومن هذه الافلام
المناجحة الفيلم الفرنسي الفرسان الثلاثة غير أن المهزل الكوميدي يواجه أيضا أزمات فكرية كما هي كذلك في مجالات الفنون الأخرى. فهو وليد
المفكر الاجتماعي في فترة الحرب العالمية الأولى. إذ اشعلت هذه الحرب البراكين بعدما اشعل البارود. في الاضرابات العمالية والهبات
المسلحة التي اجتاحت أكثر الدول الأوروبية، وكان نتاج هذه المشعلة ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا وما جلبته هذه الثورة من انعكاسات هامة لدى شعوب العالم من مفكريها من سبل ووضوح الرؤية كما ظهر في اعمال برنارد شو و برتولد فـ بريخت وبابلو بيكاسو و اعمال تشارلي مـ شابلن الذين تفاوت الحس الطبقى عند بعضهم . لكن الروائع الخالدة التي تركوها في مجال الادب والفن الهادف كانت الدليل الساطع على كـ ارتباطهم المباشر بالجماهير

اعمال شارلي شابلن في تلك الفترة
لقد قيل عن انتاج شابلن السينمائي بانه كان غزيرا في انتاج الافلام الصامتة القصيرة وقد اقتصرت معظم هذه الافلام على تركيب الفكاهة و ((المستيرا» في لقطات في انسانية معبرة فكانت جميع افلام شابلن ، كتابة واخراجا وتأليفا و موسيقى ، من وضع الفنان نفسه وقد عمق تشارلي شابلن نوعية ووجودة أفلامه في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى ، سواء في وعيه الطبقي الكفاحي أو في رؤيته الفكاهة عاملاً ساخراً ذا أهداف بعيدة تكمن في واقعية الأرضية الاجتماعية التي تركتها هذه الحرب ولعل الأزمات التي نتجت عن تلك الفترة ، قد عمقت الأسلوب الكفاحي والمثوري عند الكثيرين من الأدباء والمفنانين كما ظهر ذلك في أعمال المتراجي – كوميديا للرسام الألماني جورج غروس والمكاتب المسرحى برتولد بريخت في مسرحية أوبرا القروش الثلاثة وان اقتصرت أفلام تشارلي شابلن على نوعية الفيلم ، وليس على كمية الإنتاج ، فهى لأن شابلن تمتع بحس خاص وذكاء بارع لما يدور في محيطه ومجتمعه ، فقد كان عليه المتمهل والانتظار ، وفى بناء استراتيجية) جديدة وقفزة جديدة إلى الأمام . ولا أعتقد ، في هذا الشأن ، أن الملابس لتي جعلها مميزاً طريقة حياته جاءت بالصدفة دون أن تكون لها أبعادها النفسية في حياة شابلن . أو بالاحرى في مضمون الغرابة المتناقضة بين الطبقات المسحوقة والمرفهة ، كما قال عنها شابلن . وليس صدفة أن تبقى هذه الموضة) من الملابس مرافقة له على امتداد الطريق بل وتبقى بعد ما عنوانا سوف تعرفه الاجيال من خلاله . واذا بقيت تلك هي من مميزات فنان لم يهدأ ولم يتراجع فلكونهـــــا
مميزات لم يتمتع بها غيره من معاصريه وهي دلالة العبقرية العادية الفنان كان وسيبقى سيد
المسرح الوحيد الذي خلق السينما -كما قال عنه برنارد شو
ازمنة حديثة *
أن اختيار شابلن فكرة هذا الفيلم لم تكن وليدة ابتكار ذهني فقد جاءت نتيجة تعمق الأزمة .الاقتصادية وداب البرجوازية الكبيرة على استغلال الطبقة العاملة لدرجة امتصاص قواها البدنية والفكرية والمسير في التطور الصناعي والسباق -في الاكتشاف والمسيطرة التي كانت
الشعار في التحضير للحرب . فكما رأينا مشاهد القطعان في سيرها نحو المحظيرة ، كذلك هي قطاعات العمال المعمال السائرة نحو بيع قواها
وبالاحرى فهم أولائك الجنود المسيرون نحو المهدم والدمار وقد كان فيلم ( الازمنة الحديثة » ،الذي انتجه شابلن سنة ١٩٣٦ ، من أقوى الافلام التي أعطت الفنان ،وبحق ، ميزة المعبقرية في ذروة الابداع المواقعي المعبر وكان الفيلم الذي تلاه ( الديكتاتور العظيم ) هو نتاج الازمنة الحديثة التي
رأيناها على الشاشة الفضية وعلى الطبيعة في ذروة الأزمة التي أدت الى تحضير آلات الدمار والحرب . وتهديد الموجود البشرى في استعداد هذا
الديكتاتور العظيم ) الذي اسمه هتلر في أن يعلن الحرب على العالم ويوقعه في ليل دامس .ان الناس العاديين لم يصدقوا أن هذا الديكتاتور يستطيع أن يشعل حربا كما لم يستطع ركاب « سفينة المرحين » ، وهو الفيلم الذي مثلت فيه الممثلة المشهورة سيمون سينيوره ،أن يصدقوا أن المعالم يميل الى
الدمار . فهو كما قيل في حوار المركاب على المسفينة مسألة نزاع وتوحيد النمسا مع المانيا باسم القومية الالمانية لا غير ..!! وان كانت أبعاد
هذا الفيلم لم تتحقق في سنة ١٩٣٦
فقد كان بامكانه أن يزعزع المعالم بعد هذا التاريخ الذي جاء متأخرا . وهنا تكمن عبقرية شابلن الذي استطاع ان يضحك المعالم ويبكيه حتى تجف دموعه في تراجيديا المويلات التي لم تنته بعد .

الضحك لمجرد الضحك في سينما ( بلاش » *
من المعروف ان المولايات المتحدة دخلت الحرب في وقت متأخر ، وفى الوقت الذي كانت فيه الشعوب الاوروبية ، وعلى الأخص الشعب السوفييتي ، تدافع بأسنانها عن كل متر من الارض على حدود موسكو
وقد تنادى المكثيرون من الادباء والمفنانين في أمريكا المساعدة الاتحاد المسوفييتي وكان بينهم شارلي شابلن الذي خطب في الاجتماعات الشعبية لنجدة ( روسيا ) والمتبرع لها . وهذا بالطبع لم يرق بأعين المسلطات فاتهم ،نتيجة مواقفه ، بالشيوعية . وكانت ذروة التحريض في الحرب الباردة التي تزعمها وزير خارجية أمريكا آنذاك ،دامس ، ونفذها السيناتور المغرق بالمرجعية ماكارتي وتميزت الحرب الباردة بمضايقة وملاحقة القوى التقدمية التي تمثلت بشخصية شارلي شابلن والمغنى الزنجي المشيوعي بول روبسون ، و ( تنظيف » هوليوود من تلك العناصر واستبدالها بقوى أخرى تمثلت بأفلام رعاة البقر في شخصية الامريكي البشع ( بالممثل جون وين وتمجيد العسكرة الامريكية في حربها ضد اليابان وكوريا وأفلام المهزل و المضحك على ( المفاضي ) في أفلام جیری لویس » و « بوب هوب ) و دانی کای ) وغيرهم .وقد كانت هذه الأفلام بمثابة المعنوان المميز للطبيعة الازمنة الحديثة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إزاء كل ذلك استطاع شابلن أن يصمد أمام التيارات المعادية . فاخرج فيلم (( مسيو فاردو )). وكان عليه أن يمثل أمام لجنة التحقيق وهي بيد مكارثي في عملية ( صيد الساحرات ) عن نشاطه المعادي لأمريكا وفي سنة ١٩٥٢ طلب منه بلطف))
أن لا يرجع إلى أرض أمريكا. وقد هجرها الى أوروبا مع امرأته اونا ،آخر زوجاته ، التي أحبها حتى نهاية حياته
.
وهناك في سويسرا ، موطنه الاخير ، عمل في فيلم « ملك في نيويورك » المذي يعتبر انتقادا صارخا للنظام الأمريكي ، وضد المقيـــــــــــم والتيارات التي نماها هذا النظام .وأخرج أيضا فيلم « الاميرة من هونغ كونغ » . غير ان القمة التي وصل اليها في فيلم ( الازمنة الحديثة » وفيلم أضواء المسرح ) وكانت بمثابة اوتوبيوغرافية المصراع فنان من أجل عالم لا يسود فيه الفقر والدمار وشقاء
الانسان على هذه الارض ان من شارلي يكمن في العمق والتحدى وديناميكية التفكير . أن شابلن كما قيل عنل في « دير شبيغل )
الالمانية :عرف بالضبط كيف ومتى يدير الامور . ورأى الامور قبل أن يراها أحد غيره من رفاق زمانه في تصويبه نظرة المغضب ، هذا الغضب الذى فهمناه نحن بنظرة الود عندما عرفنا كم هي صائبة نظرات الانسان الجائع الفقير ، لكن الطيب . وكذلك شخصيات
أفلامه التي أحببناها بسبب ما تعكسه تلك الشخصيات من معان عشناها على الطبيعة )لقد أخرج شابلن أفلامه الصامتة الى مفاهيم المقرن العشرين بلغة ناطقة فهمها الناس من خلال المحركة ومن خلال النظرة الدافئة ، ومن وقع العصا المؤشرة الى الطريق !
