في الذكرى الأولى لرحيل الفنان إسماعيل شموط
بقلم: الفنـــان عبــد عابــدي
راجعـــون.. وإسماعيل شمّــوط
في شهر نيسان من العام 1948 كانت عائلتي الكبيرة المكونة من عائلات الحاج والقلعاوي وعابدي من العائلات الحيفاوية العريقة تعبر مسالك التشرد عبر الميناء “ونهر المقطع” شمالا إلى لبنان وسوريا والاردن. كنت أنا ولدا صغيرا عندما التحقنا بمركب تجاري أقلنا بحرا مع جدتي فاطمة القلعاوي وجدي نايف الحاج وأمي خيرية وأخوتي زهرة وسعاد وأخي طيب الذكر ديب الى ميناء بيروت ومن هناك الى الكرنتينا ومن ثم الى مخيم المية ومية ( كان معسكرا للجيش الفرنسي في فترة الانتداب الفرنسي في لبنان وسوريا)، وهو مخيم يقع على أطراف مدينة صيدا.. رحلنا جميعا ما عدا والدنا قاسم عابدي الذي أبى أن يترك وسادته وحصيرته في حي وادي الصليب القريب أمتارا معدودة من شاطئ البحر الغادر.
سيرتي الذاتية هذه تشبه إلى حد كبير المسار المأساوي الذي مر به إسماعيل وتمام في مسار التشرد من اللد الى رام الله مشيا على الأقدام وتشرد زميلنا الفنان محمود طه من يبنة إلى شرق الأردن وناجي العلي من الشجرة مرورا بطريق المسيح الى طبريا ومن ثم صاعدا قمم الجبال الى قرية مرج عيون التي ربما تلاقينا فيها هناك أيضا. ويبقى أن ركوب البحر والإبحار مع “الفلوكة” كما فعلت عائلة تمام الأكحل (أم يزيد) هو المسار المميز لتهجرنا ولمهجرنا.
* * *
تشئ الظروف لاحقا ويا للمعجزة أن نستعيد إمكانية الرجوع إلى حيفا بعد قضاء سنتين من التشرد وفي مخيمات اللاجئين في لبنان وقضاء سنة ونصف في جامع مهجور في حي الشاغور في وسط مدينة دمشق القديمة، تلك المدينة التي بقت فيها شقيقتي الكبرى لطيفة وأبناءها في مخيمات اللاجئين هناك.
كان ذلك ضمن ما فعله أبانا قاسم عابدي الذي لم يترك حينا لكن ترك حصيرته القريبة من شاطئ البحر واخذ يستنجد معارفه من “الإشكناز” وخاصة شريكه في تجارة الأبقار والخيل “حاييم شميد” أن يسعفاه وأن يسمح لنا بالرجوع الى حيفا.
رجعت أنا وعائلتي الصغيرة دون شقيقتي الكبرى المتزوجة في الغربة ودون العائلات الحيفاوية العريقة، رجعت أنا وبقي ناجي العلي واسماعيل شموط معلمي الأول ومحمود طه وغسان كنفاني وأحمد دحبور وتمام الاكحل ومحمود الكرمة وأبو سلمى وسميرة عزام وغيرهم من المبدعين الفلسطينيين بعيدين وقريبين من حدود الوطن فلسطين.
* * *
في العام 1957 وبعد سنة من مرور حرب السويس قرأت خبرا في “مجلة الجديد” الصادرة في حيفا عن الرسام الراحل اسماعيل شموط وعن معرضه الذي افتتحه القائد جمال عبد الناصر في القاهرة وهو الفنان الفلسطيني الأول الذي يحظى بتلك المكانة والتقدير والابداعات الفنية ولما يحمله المعرض من مواضيع عن القضية الفلسطينية وتشرد أهلها.
كانت اللوحة المعنونة بـ “الى اين؟” ومسار نزوح اللاجئين بمثابة شعلة أضاءت مخيلتي كوني ولسنوات خلت كنت أنا وجدي نايف الحاج وجدتي فاطمة وأمي خيرية وأخي طيب الذكر ديب وشقيقتاي زهرة وسعاد في هذا؟ في خيم المية ومية وجامع الصابون في دمشق.
كنت انذاك أتابع برامج الإذاعات العربية كي أحظى بسعادة ولو للحظات في سماع أغنية فيروز راجعون وسنرجع يوما الى حيينا، كنت كلما سمعتها عبر الإذاعة محاولا تجسيد ذلك الحدث عبر اللوحة القماشية وكانت الأولى التي رسمتها تكريما لفيروز ولصوتها الباقي فينا أبدا .
إبراهيــم هزيمــة المغتــرب فــي برليـــن
ذكرت سابقا أنني ومنذ طفولتي وحداثة عهدي كنت تواقا للمعرفة والتعبير الفني بواسطة الرسم والكتابة الإنشائية وكنت شغوفا بتصوير المواضيع الحياتية لمن تبقى في حيفا كأقلية مهزومة ومغلوبة على أمرها وكذلك البقية الباقية في الجليل والمثلث وقضايا الحكم العسكري وحركة التنقل والتصاريح الملزمة في التنقل من حيفا الى الجليل والمثلث ومناطق أمنية أخرى (كزيارة طبريا، ومناطق سياحية أخرى).
كلها جميعا ساهمت في صقل موهبتي الفنية التي تركزت في موضوعات اللاجئين وقضايا المسحوقين والمضطهدين في البلاد وخارجها.
إن انتمائي إلى ما يسمى أبناء الكادحين والشبيبة الشيوعية وفيما بعد الى الحزب الشيوعي في اسرائيل قد سرّع وساهم كثيرا في وضعي الى جانب خانة الملتزمين والمدافعين عن الحق ولأجل حرية الإنسان وحرية الأرض والكرامة والسلام وحق العودة والمساواة للجماهير العربية في وطنها.
أقمت معرضي الأول في مدينة تل أبيب في العام 1962 وكان أول معرض لفنان عربي شاب في المدينة العبرية ومن ثم لأول مرة فنان عربي شاب في جمعية الفنانين الاسرائيلية.
كانت أعمال إسماعيل شموط وأعمال كاتيا كلوفيتش الألمانية وأعمال المبدعين الفرنسيين ديلكورا وباول غوغان واغوسط رودان ومانيه ومونيه تدغدغ الخيال والإلهام وكذلك أعمال الفنان الخالد الاسباني فرنسيسكو غوبا وبابلو بيكاسو وفان كوخ ورمبراند والايطالي ريناتا غوتوسو رسام المهجرين وفيما بعد أثناء دراستي في درسوف اللقاء المؤثر مع فنان المكسيك الخالد سيكيروس.
في نهاية العام 1964 حصلت على منحة دراسية للدراسة الأكاديمية في المدرسة العليا للفنون في مدينة دريدسن وذلك ضمن المساعدة التي قدمتها جمهورية ألمانيا الديمقراطية عبر الحزب الشيوعي في إسرائيل. أيقنت حين قبولي للدراسة أنني سأتعرف على الفنانة كيتا كولوفيتش رسامة الغلابة والمضطهدين في ألمانيا في فترة ما بين الحربين العالمتين، لكنني لم أدرك أن كيتا قد توفت في العام 1944 وأن الرسامة ليئا غرونديغ هي التي سوف ترشدني في السنتين الأوليتين وهي مطلعة على أعمال الفنانين المعاصرين وتعرف عن الفنان إسماعيل شموط الفنان الفلسطيني الذي زار ألمانيا مرات عديدة. إن كون الفنانة المحاضرة ليئا غرونديغ تنتمي إلى أصول يهودية وهربت من معسكرات الاعتقال والموت ساهم في بلورة اتجاهاتي الفنية والشخصية.
وفي بداية العام 1965 كان لي اللقاء الأول مع فنان المهجر والرحيل الزميل إبراهيم هزيمة المولود في عكا وهجر منها إلى سوريا ومن هناك قُبل طالباً متميزاً في كلية الفنون الجميلة بمدينة لاينبرغ التي تبعد حوالي 150 كيلومتر عن مدينة دريسدن، لقد تمحور لقاؤنا الأول عن مسارات الهجرة ودولها ومكانة الفنان الفلسطيني وطموحاته المستقبلية وحديث عن معلمنا الأول الذي رسم النزوح والهجرة الفنان إسماعيل شموط.
يتبين لاحقاً أننا أربعة فناني الهجرة والتغرب وهم تمام الاكحل وطيب الذكر إسماعيل شموط وإبراهيم هزيمة وأنا دعينا لمعرض مشترك في المتحف الوطني الأردني في عمان تحت عنوان “الحلم والحقيقة” بدعوة من الأميرة وجدان علي وذلك في العام 1997، شارك في حفل الافتتاح لفيف من المبدعين الفلسطينيين والأردنيين والصحفيين العرب والأجانب. كان ذلك اللقاء التاريخي مع إسماعيل وتمام بمثابة حلم حقيقي في استرجاع الصورة المرئية لأجزاء الوطن ومركباته في صدر بيارات البرتقال في سهل اللد والرملة وسفن الأبحار من ميناء يافا ونساء عكا وقراها وشبابيك البيوت المهجرة من أحياء حيفا والجليل.
إسماعيــل وتمــام فــي حيفـــا
في ربيع العام 1992 أعلمني إسماعيل (أبو يزيد) عن رغبته في القدوم إلينا مع زوجته تمام (أم يزيد) لأجل إقامة معرضه الأول في قاعة المركز البلدي في الناصرة. كانت فرحتي لا تصدق عندما استقبلتهما في المدخل الجنوبي لمدينة حيفا وحلا ضيفان في بيتنا الكائن في وادي النسناس، كما قمنا خلال تواجدهما في حيفا بزيارة مرسمي والأماكن التاريخية والمواقع التي انطلقنا منها في عملية النزوح والهجرة (بداية الميناء ووادي الصليب) وكنت أشعر خلال الشرح والحديث عن حيفا وأهلها الباقين فيها كم هما سعيدان لهذا اللقاء وتواجدهما على أرض الوطن وكم هي الحسرة وشعور الألم لهذا الشعور المجبول بين الحلم والحقيقة كما تفوه بها طيب الذكر أبو يزيد.
قمت خلال الزيارة القصيرة بترتيب لقاء مع مبدعين شباب من كفر ياسيف في إطار جمعية “إبداع” التي ترأستها لمدة سنتين. وكذلك في ترتيب لقاء مع مجلس اعبلين المحلي وكادر عامليه وزيارة النصب التذكاري لشهداء يوم الأرض في سخنين وعكا. كانت السيدة تمام وخلال الزيارات المرهقة تحرص على توفير ساعات راحة لزوجها وتتأكد من تناوله الأدوية المختلفة واليومية والنوم المبكر.
لقد دأبنا على التراسل بعد هذه الزيارة وبرمجة نشاطات فنية وتواصل لمبدعين من الداخل في المعرض الذي حرص إسماعيل على تنفيذه لستة فنانين في المتحف الوطني في العام 1999 والذي افتتحته الملكة رانيا. وقيامه بترتيب لقاءات وندوات في بيته الواسع باشتراك فنانين وصحفيين أردنيين وفلسطينيين ومتابعة الحدث وعلاقاته المميزة والمتشعبة مع أبناء شعبه. أصدر إسماعيل شموط كتابه الأول والجامع عن الفن الفلسطيني وفيما بعد كتابه السيرة والمسيرة لمجموعة أعماله وأعمال زوجته تمام وتعد رائعة السيرة والمسيرة المرئية لما سجلته عيناهما لرحلة الشقاء التي ابتدأت مشياً على الأقدام من اللد إلى رام الله ومن رام الله إلى الكويت وبرلين وإلى بيروت في سنوات الحصار ومن ثم إلى الكويت وبعدها إلى عمان ليستقر بها إلى الأبد.
* * *
في العام 1969 دعيت إلى ألمانيا من قبل جمعية الصداقة الألمانية الفلسطينية بواسطة ممثلة الجمعية السيدة الين رولف لافتتاح معرض مشترك لفنانين فلسطينيين ويهود في شمال ألمانيا بعنوان “حقاً ممكن” هذا المعرض الذي تنقل من نيويورك ومدن أمريكية أخرى إلى ألمانيا ومدن أوروبية أخرى. في أثناء افتتاح المعرض وبحضور شخصيات ألمانية عديدة، وقفت السيدة رولف حاملة ملصق وعليه لوحة إسماعيل شموط بعنوان “إلى أين؟”، تمثل الشيخ الفلسطيني مشقق الوجه والى جانبه حفيده في مسيرة الغربة دون تحديد، دعت السيدة الحضور إلى الالتزام بالصمت لمدة دقيقتين وتذكار ما حدث للشعب الفلسطيني والتضامن معه واعتبار أن الفلسطينيين هم ضحية “الكارثة” وان على الشعوب الأوروبية أن تساند قضيتهم العادلة والإنسانية. في الأيام التالية من وجودي في مدينة “كير” القريبة من همبورغ ضيفاً عند السيدة ولف وكان عمرها 75 عاما وصالة بيتها تحوي الكثير من اعمال إسماعيل وآمراته تمام. لقد كانت معجبة بأعمالهم وترى فيها الوسيلة والرسالة الهامة في نقل مأساة الشعب الفلسطيني في تحريك الضمير الأوروبي لتضامنه معه.
* * *
قبل سنوات كتب الكاتب الإسرائيلي النقدي عاموس كينان مقالة في ملحقات إحدى الصحف عن الطرد والتهجير الجماعي بأمر من رئيس الحكومة دافيد بن غوريون أبان النكبة لسكان اللد والرملة. وكان على رأس المنفذين قائد المنطقة إسحاق رابين حيث تم إخلاء السكان بالقوة وطردهم إلى الضفة الغربية (المملكة الأردنية فيما بعد). يروي عاموس كينان في مقاله ما رأته عيناه في مدينتي اللد والرملة أثناء تجواله هناك في فترة النكبة يصف كينان البيوت والأبنية المفرغة من سكانها وحالة العبث والتدمير الهائل لأحياء اللد والرملة واللحظات التي مرت حين ترك الناس بيوتهم. فمنهم من ترك الطبيخ على نار “البريموس” ومنهم من ترك فناجين القهوة فاترة لم تشرب بعد. وهناك بيت مميز.. يقول كينان.. دخلته… وإذ بي أرى لوحات فنية مرسومة على قماش قيم منها موضوع على الحمالة وألوانها لم تجف بعد.. بدت لي أن هناك شاب كان يرسم اللوحة ولوحات أخرى مبعثرة بغرفة المكان قبل حدوث ما حدث وكأنه تواق إلى عالم يخلو من الحروب والدمار وكأنه.. لم يدرك أن لحظة الوداع الأخيرة والفراق حتماً آتية… إنه لن يسعد أبداً في تحقيق حلمه وسيكون هو هناك (في الغربة) إلى الأبد بعد قرائتي لهذه المقالة.. وحين زيارة إسماعيل وتمام إلى حيفا رويت ما جاء في التقرير مقتنعاً تماماً أن ذلك الشاب الهاوي الذي كان يرسم ربيع بلاده في ربيع العام 1948 لم يكن سواه… وها هي الرملة واللد … مأذن النبي صالح والجامع الكبير وكنيسة مار جريس ومواسم الخضر والبيارات الخضراء وجدارات الصبر والتين ومواسم الأفراح لا زالت في انتظار عاشق الأرض والسماء ابنها إسماعيل شمّوط رسام الهجرة والرجوع. .
مرت سنة على وفاة الأخ الأكبر والفنان البكر إسماعيل شموط، وها أنا في حيفا أعيد ذكراه وذكرى اللقاء الذي تم هناك في عمان، أجول في صور كتابه السيرة والمسيرة وأمر على تكوينات وجوه النساء الحالمات والرجال ذوي السواعد القوية والرجل مشقق الوجه والكرسي المتنقل والبقج التي تحوى الخرق وتحوى الكواشين وشهادات النفوس، صور لأطفال في حواكير البرتقال.. أسمع آهات الجموع الحاشدة المستصرخة بصمت اللوحة بسرابية الرجوع اللارجوع.. في دغدغة فرشاه من آمن أن للون حكاية وللخط قوة الاختراق لكل الجدارات التي تحول دون تحقيق الحلم الذي لا بد أن يتحقق
أخي إسماعيل… سلام لك…