
وادي النسناس حلقة (۳):
بقلم: زاهد عزت حرش
* ما زالت تتهدهد شمس بلادي بين ثناياه تعب من دفئه، ترتشف قهوتها على مهل كأنها ابنته الصغيرة، فظلال الأشجار التي استظل بها الشاعر حسن البحيري ذات ليل قارس اصبحت شبه معدومة.. فقد غدا المكان مكتظا بالكثير من الاشياء معبأ بشحنات الغضب المكبوت وقليل من الصمت يحوم في الأرجاء، يتوعده فرح الايام القادمة في عرس الاعراس وعيد الأعياد .. فرح الانسان الذي اصر دون وعي ان يكون انسانا. هذا الفرح الطفولي الآتي من ضجيج الأغاني والموسيقى التي ستفترش المكان كحبات القمح امام حمامات بيض تنقرها بفرح ووجل صاخب .. هو فرح البلوغ والوصول الى ما ليس منتظرا او الآتي دون مبعاد کالاشياء المعتادة حقا . نحن حجارة الوادي الانتماء للوطن ليس مجرد احاسيس ومشاعر نفسية يحملها المرء
كمخزون تذكاري يفوح عطره في المناسبات حين نقدمه على شكل باقات من المودة والحنين!! انما الانتماء هو اسلوب حياة وارتباط مستمر ما بين الكائن والبيئة الحياتية التي ينتمي اليها.. اعتمادا على الوعي والادراك، والمعرفة المستمدة من الحدث والذاكرة المعبأة بالحنين والمودة، وهو ايضا يختلف وسمات الانتماء العصبي القبلي لأنه يستمد مصداقيته من العلاقة الجدلية والانسانية الملتحمة بشكل وثيق مع الرؤية المستقبلية في اتصالها الخلاق مع ماضيها وواقعها المعاصر. نحن حجارة الوادي الراسخة في بقائها الأزلي وقد اصيب بقاؤنا بانكسار .. الخاطر.!! فغدونا نحلق بمفهوم الانتماء ما بين الحلم المخزون في الذاكرة والواقع العصي على الاستيعاب والقبول.. ذلك في ظل نظام سیاسي مهيمن يملك الكثير من امكانيات الاغراء والسيطرة لغسل الأدمغة ، ومع هذا الواقع حافظ البعض منا على تلك القدرة الرافضة رغم انعدام اية وسيلة لإحداث تغيير فيه. بيد أن هذا الواقع المرهق ادى الى ظهور شعور بعدم القبول ترجمته الايام على شكل ظواهر عقابية ما لبثت ان تلاشت مع الزمن، ومع غياب الخطاب الجماعي البعيد عن
التعددية والفئوية انطلق الشعور باللامبالاة والسطحية والتعامل مع الشواهد الطبيعية والمدينة وكأنها غريبة عنا، وكأن هذا الوطن بالأرض التي نعرفها وتعرفنا منذ فجر التاريخ ليس لنا !! وكأنما نحن قوم غرباء في وطنهم. ذلك هو حلم الصهيونية التي دفعت عمرها في سبيل احالته الى واقع. بيد انني مقتنع لحد الخرافة، أن مشاهد لبعض حجارة مجاورة لجدار.. وغصن منبثق من جذع دوحة قطعت اطرافها لكنها ما فتئت تتشبث بالحياة.. ما هي الا صور عن واقع بقائنا واستمرار وجودنا المقدس. يتوجب علينا ترجمة الانتماء القابع في الذاكرة الى علاقة انسانية مع المكان، مع الارض والانسان، مع طرقات منازلنا، مع اشجار حارتنا، فكل هذه الاشياء المترامية من حولنا تساهم في انشاء فسيفسائية تعبيرية زخرفية تشكل مجملها جدارية رائعة للعلاقة الانسانية المتصلة ما بين ماضينا ومستقبل ابنائنا على مدى الزمان. هكذا بدأت ادخل في مسامات الضوء والمرايا .. من خلال البعد المتصل بالانتماء المتوغل هنا منذ قرون في كيان له مصداقية الزمان والمكان، له صفة العصارة الابداعية المختزلة في مساماته الفنية حتى اصبحت روايته قائمة على اساس الانتماء الانساني والحضاري لهذا المكان.. فبالقرب من دار النخلة سابقة المتاخمة لمقهى ابو حنا ومطعم فؤاد الصلح في عمارة الحج
حسن البكير.. امتد عمل ابداعي من صفائح النحاس المطعم بالمرايا وصلت مساحته الاجمالية الى ثمانية عشر مترا مربعا، أنجزه الفنان عبد عابدي تحت عنوان.. وادي الضوء والنحاس والمرايا مررت امام هذا العمل وتوغلت فيه لأن لي علاقة تاريخية معه من خلال العلاقة الانسانية فيما بيننا.. تسمرت الأشياء في ذاكرتي حتى تراءت لي كرؤيا في رحلة استرجاعية لأيام زمان، يوم كان هذا المنحدر الجبلي مصبا لسيل ماء موسمي تجف ارضه مع اول اشراقات شمس الصيف، وتغدو مضيئة ببقايا الماء على سطحها وكأنها صفائح من النحاس المذهب، وتلك البقع المائية المترامية هنا وهناك تحمل في تكوينها شكل المرايا التي تحتضن بعدا لا متناهيا في الفضاء الرحب.. اية قصيدة غزلتها هذه المساحات الرائعة لتعيد ترتيب ذاكرة المكان.
يقول الفنان عبد عابدي «منذ فترة الوعي قمت تجند الابداعات الفنية كعامل مؤثر وفعال في ايقاظ الحس الفردي والجماعي واثراء عين المشاهد وتحريکه ضميريا ووجدانيا لمواجهة الغبن والتمييز والقهر العرقي والعدمية القومية للفلسطينيين اصحاب الوطن في وطنهم» . ( . كما ويسترسل في رواية الاستفادة من التجربة الغنية لآباء الواقعية والرومانطيقية المبكرة في اوروبا وتأثيرها عليه آبان دراسته الاكاديمية هناك.. وخاصة اعمال الفنان الخالد البرخت دورير الالماني وبرغل وفرمیر ورمبراند، وفيما بعد ذلك، الواقعية الثورية والرومانسية المتجسدة بأعمال الرسام الاسباني فرنسيسکو جويا ودیلاركو الفرنسي وغيرهما. وكيف ترکت فاجعة التشرد والنزوح الأثر الأشد في اعمالة المبكرة، التي هي في الواقع بداية التاريخ المكان في الذاكرة الجماعية الفلسطينية، التي حاول من خلالها تحريك الضمائر وحث الناس على التضامن والتعاطف الوجداني.. يقول عابدي «استعنت بصفائح نحاسية كبيرة الحجم تتوسط مساحاتها الشاسعة اربع مرايا على شکل مجسمات لوجوه آدمية (سلويتات)، مستعملا القش والخشب والزخارف النحاسية المختلفة كتجربة لاستعادة عبق المكان، واستحضار
ارواح الساكنين واعادة تكوين ما افتقدناه من ذاكرة المكان، جماعة وافرادا » وعن علاقته بالمكان يستطرد قائلا.. «ان للمكان ذاكرة تتجسد في رائحة ازقته الرطبة وادوات بيوته النحاسية والفضية والسيراميكية.. وهي ايضا وثيقة الصلة برموزه الدينية والشعائرية وارتباط الناس بعاداتهم وتقاليدهم الحياتية، كل هذه الأشياء من شأنها ایقاظ المشاعر الدافقة فينا على نحو من الاستعطاف والتضامن من قبل الساكنين في هذا المكان .. الذي ليس لهم سكن آخر سواه!! وحتى الزائرين الذين تستدرجهم حالة الفضول في المشاهدة والتعرف من اجل الوصول الى الانطباع الانساني المطلوب » . ان تاريخا من العطاء شحذ في هذا الانسان قدرة مفعمة بالصدق تؤدي رسالته بكل ما ائتمنته من عاطفة وطيبة ليقول في ذلك.. «ان الفن الذي اسخره هو حالة من حالات التأمل وایقاظ الضمير وهو سعي لتأهيل عين المتلقي لخلق حالة من الحوار بين شقي التناغم (الهرمونيا)، والتفاعل الحسي القائم بين المثال الجمالي والاخلاقي، بين السرد ورد الفعل في الجدل
القائم حول ما كان وما سيكون، ضمن الدعوة الى الحفاظ على القيم المثلی . ( ليس من شك في أن هذا العمل الابداعي الجماعي هو حالة ثقافية ذات صيغة وابعاد تحمل في ثناياها أحلاما ذات اهداف انسانية راقية.. فمن هذا القبيل يتوجب دفع هذه المسيرة والمشاركة الفاعلة في انجازاتها حتی تأخذ الطابع المحلي والكوني المعبر عما يختزله وادي النسناس من ذكريات وتاريخ مجيد. سنقرع النواقيس دون كلل حتى يعلم القاصي والداني اننا لن ننسی بوتقة انصهار فكرنا الحضاري ووجداننا الانساني، في كل بقعة من ارض هذا الوطن.. فهنا ترعرع الشاعر. حسن البحيري في ليلة من ليالي سنة ۱۹۱۹ وضعت آمنة (ابنة خليل صالح ابو هواش) مولودها ، مع اطلالة يوم حزين لم يخط في سجل رسمي، ولا حملته شهادة ميلاد .. لكن كتبته النوارس بمناقيرها على صفحة الأزرق الرجراج.. لا ليذهب ادراج الرياح، لكن ليبقى بقاء الأرض والسماء.. في ارض الخير ، والحب 6 ، والقداسة، والسلام » هارون
هاشم رشيد. هذه هي واقعة مشهد تاریخي سجلها الزمان والمكان في ولادة شاعر قاسي من البؤس ما لم تحتمله الاكام.. لكنه روی برهافة احساسه وصدق مشاعره قصائد العشق الازلي لهذه الأرض الطيبة حيث انشد قائلا: حيفا.. وانت مزاج لروح في رمقي وعمق جرح الهوى في مرجعي الخفق والضحك تمسحه الأيام عن شفتي والليل تطرحه الآلام في طراقی عيناي انت.. وانت العمر اجمعه وانت عرس المني في ماملي الألق وانت طلعة فجري نورت سبلي وانت غيبة شمسي ألهبت غسقي يشدني لك شوق لو غمست له يراع شعري في صوب الحياة الغدق بهذه الذاكرة الفردية والجماعية علينا ایقاظ هذا المكان وكل مكان آخر في هذا الوطن.. علينا الارتباط به وتوثيق العلاقة اليومية مع الأرض ان يؤخذ ولا يعطى.. وانه «وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق ».. فهذا الوهج الساطع فينا كشعاع نجمة الصبح ينبئنا بميلاد عهد جديد.
source: https://www.nli.org.il/en/newspapers/?a=d&d=alittihad19991217-01.2.150
Al-Ittihad – الإتحاد
