حين نقول عن صورة أو لوحة أنها تحمل لمسات شعرية، لايعني هذا أن المصور أو الرسام كتب «قصائد» تحت أو فوق أو بجوار ما يصوره. والأمر نفسه يمكن قوله عن الرواية والمسرحية وبقية فنون الكتابة بأنواعها. اللمسة الشعرية هي مقاربة حيوية خاصة للأشياء، هي لمسة يمارسها المصور والرسام والكاتب حين يبث في الأشياء طاقة لم تألفها العين العادية أو اعتاد عليها قارىء الكلمات. بعبارة أوضح، هي لمسة تستنطق الأشياء وتفجر فيها ذاكرة، أو رمزية ما، أو تعيد تكوين المشهد في ما يشبه نسقا جديدا نضراً غير مسبوق.
هاهنا رسام يحمل بصمته الخاصة منذ البداية؛ إنه الفنان الفلسطيني «عبد عابدي» الذي ظل في فلسطين المحتلة، وفي أكثر مدنها بقاء وارتباطاً بالذاكرة، أعني «حيفا» المطلة على البحر الأبيض المتوسط. هذا الرسام الذي تذكر رسومه وصوره منذ الوهلة الأولى برسوم وصور الفنان «ناجي العلي»، تتخذ لديه الشعرية منحى خاصاً بعيدا عن الغنائية الذاهلة التي نشاهدها عادة في صور ورسوم معبرة عن الحنين إلى الوطن ومرابعه. ويتمثل هذا المنحى في التأكيد على الوضعية الفلسطينية كمأساة أولا، وتبعا لذلك على استعادة الأسماء والأمكنة والأشخاص، وتحويل الأشياء الفلسطينية إلى أشياء مرئية تقاوم الغياب والنسيان.
في خلفية هذه الشعرية الحادة أو الخشنة، إن نظرنا إلى الخلفية الواقعية أو الأشياء كما ترتسم على لوحة الحاضر الفلسطيني تحت الإحتلال، أسماءٌ ممحوة ومشهد تم تغيير معالمه وأناس شردوا بعيدا عن بيوتهم وقراهم. وما يفعله المصور الرسام هو استنطاق الأشياء وتفجير ذاكرتها، وجعل البشر المحرومين من وطنهم وهم يعيشون تحت سمائه مرئيين، كمجموعات وأفراد تحت ضوء ساطع، كأنه يعيد بهذه اللمسة تأكيد الحضور الراسخ الذي لايمحوه التغييب والتجاهل.
ولعل في استخدام اللونين الأسود والأبيض، وبهذه الخطوط الحادة والملامح التي رسمت كأنما بسكين، رغبة دفينة في جعل ما يتوهج هو حقيقة هذا الوجود، وجعل الطاقة الكامنة في المشهد البشري والطبيعي ملموسة، وهي أمور كان يمكن أن تخفف من حدتها الشعرية الألوان لو استخدمها الرسام.
ومن الواضح أن الرسام يود عامدا متعمداً إقامة نصب في المشهد، ما قبل النكبة وما بعدها، نصب لاتسجل الذاكرة المأساوية للباقين على أرضهم فقط، بل تتحدى أيضاً الإقتلاع والنفي والتشريد ومصادرة الأرض وهدم الأحياء وتغيير معالم الطرقات.
٭٭٭
ثلاثة عناصر في هذه الرؤية تؤدي وظيفة الإقتراب من الأرض والبقاء؛ أولها تأكيد الأسماء والملامح الفلسطينية لهذه الأرض، وثانيها التعبير عن هذا بتفجير طاقة وحيوية الإنسان ممثلتين بتكوينات شبه نحتية للوجوه والأجساد، وثالثها إبراز العنصر الإنساني. وكل هذه العناصر كما يقول «عبد عابدي» في معرض حديثه عن نصب «شهداء يوم الأرض» الذي أقامه في قرية «سخنين» إنما هي ذكرى الحاضر والمستقبل أيضا. رسالة هذه الذكرى هي روح الإصرار على البقاء في مواجهة كل أفانين الإبادة والمحو والتلفيق، وشهادة انتماء أبدي لهذه الأرض.
٭٭٭
هذه شعرية لاتبدو مفارقة لزمنها، بل هي منه ومن أعماقه، شعرية تقاوم ضلال «الشعريات» الزائفة المتنوعة التي حاولت طمس وإخفاء طاقة الإنسان الفلسطيني على المقاومة والصمود على أرضه، بل وحتى تغييب وجوده المرئي، وتمثيله بصور شتى لاتمت إلى واقعه وواقع مأساته بصلة. وهذه شعرية الجموع أيضاً، الكتل المتراصة التي تتغلب بتجمعها وتراصها على جوائح الإبادة والإفناء والغربة في داخل الوطن وخارجه. ولا تغيب هذه الروح الجماعية حتى عن ملامح الصور الفردية، فهي ممثلة حتى بفرديتها لما هو أعمق من فرديتها. وحين يكتفي الرسام بمشهد احتضان الأم لطفلها أو مشهد عيون امرأة ينساب شعرها مثلما تنساب راية، لايرسم ملامح محددة فردية بقدر ما يستثير الطاقة الرمزية في إشارتها إلى ما يتجاوز فردا محددا، إلى شعب ترمز له عاطفة أم وعيون امرأة وجسد شهيد.
مجلة الكويت العدد : 269
2006-03-01