زاهد عزت حرش
ما ان تقع عيناك على صفحة بيضاء تحمل خطوط سوداء , لتصنع في اتحادها تشكيلاً فنياً ذات صبغة متميزة , الا وتعرف انها تعود له , فانحنائات الخطوط واحتدادها وظلال الوجوه المتعبة الصامدة , والنظرات بعيدة الافق والسواعد الصلبة الناشفة , كلها تجتمع في تكوينات خطوطية متجانسة, لتروي لك حكاية ما عن مرحلة ما من تاريخ الارض والناس, وخاصة الاكثرية الكادحة منهم.. صور يمتزج بها الصمود بالتحدي, حملت دائماً توقيع شاهد واحد, توقيع الفنان عبد عابدي
.ان الرسم بالنسبة له لم يكن اتياً من مجرد كونة عملية ترف ثقافي قولاً وممارسة .. بل على نقيض ذلك تماماً! ان العمل الابداعي بالنسبة له مسؤولية تاريخية.. يردد دائما بصدى ريشتة وكلماته امامي.. ولا يزال قائلاً, “اننا مسؤولين امام التاريخ والاجيال القادمة بالنسبة لما نقوم وما لم نقوم به”.!! لقد اعطى ابو امير كثيراً من ذاته لكل ما له علاقة بالفنون التشكيلية, فجائت ابداعاته معبرة عن آمال الناس والآمهم, وكانت ايضاً رواية حية ذات فصول متجددة لكل مراحل بقاء هذا الشعب واستمرارية وجوده. فكيفما حاولت ان تهرب من هذا الحضور المتميز الكامن في الشواهد الابداعية المترامية القائمة في موقع ما من ارض هذا الجليل, وجدت الفنان عبد عابدي قائماً كصرح عملاق في احدى زوايا المكان. ان ملصقات صرخة سجناء الحرية.. وقبضات السواعد الباسلة صورة عنه, ومحراث النصب التذكاري القائم على ارض سخنين, ما زال يحفر اتلامه المستقيمة في الذاكرة .. ما زال منتصب الهامة فوق الثرى, معلقاً في فضاء الارض المههدة بالمصادرة منذ الطلقة الاولى للصراع, ولم تزل !! ولم يزل يصرخ في وجه التهويد ويمارس ببقائه صفة الشاهد الازلي على الممارسات الموبوءة الاتية من كل اتجاه.. وغيره وغيره الكثير الكثير في كفركنا, في شفاعمرو, في عبلين, في كفر مندا, في الزرازير.. وتستطيع ان تقول اينما شئت!!
ما من ريشة للون في ربوع هذا الوطن الا وشربت من نبع يديه.. ومن نبع عطاءه المتجدد, لان تاريخة يمتد كالنهر المشبع بالصمت والسكون انعكاساً لعمقه وصفاء مجراه, ففي احشاءه تختبئ الاف الكنوز الابداعية التي خرج بعضها ليعيش بيننا, حاملاً صفته الاستثنائية وبصمات يديه. اذكر انه في يوم افتتاح معرض (القدس ووتريات فلسطينية) للفنان كامل المغني في عكا, تحدث البروفسور غاوي غاوي عميد كلية الفنون الجميلة بجامعة النجاح الوطنية في سياق مداخلته فقال “حين التقي بعمل للفنان عبد عابدي, لا ابحث عن التوقيع ولا اسأل عن صاحب العمل, لانني استطيع ان اخمن باحساسي انه يعود له..” وهذا دليل على رسوخ ظاهرة تشكيلية تعلم ابناء شعبنا فيها الدروس الاولى لمحو الامية في القراءة البصرية, بلغة خصوصية وبابجدية محلية متميزة عائدة لعبد عابدي بصفتة فنانها الاول. ان من اراد دراسة تاريخ حركة الفن التشكيلي لهذه البقية الفلسطينية الباقية بقرب مساحات الزيتون وحجارة البيوت القديمة, لن يستطيع ان يدرك شموليتها وعمق مكنوناتها دون الاعتماد بالاساس على ظاهرة عبد عابدي الفنية.. حضوراً ومساهمة, كمرحلة ابتدائية وكاستمرارية لقرابة نصف قرن من الزمن.. ساهمت وما زالت تساهم في ارساء دعائم الحركة التشكيلية.. التي اسس في سياقها حضوره كمبدع له دوره وشأنه في فضاء الحركة الفنية على امتداد ارجاء التواجد الفلسطيني .