زاهد عزت حرش
الأثنين 21/2/2005
رحلة يومنا العادي تتحول الى انتحار مع فنجان قهوة الصباح.. اذا لم ينكسر بلور ساعات عمرها الغالي بوميض بريق جماليات مدينة الفنون الخالدة.. هذه الحالة الوجدانية المنبثقة من غياهب الذات البشرية، تعزف على اوتار القلب لحن الصيرورة والبقاء. وتمدنا بألف سبب كي نتجدد كل يوم.. وكي نجذر بقاءنا في هذه الارض وعلى ثرى هذا الوطن.. الذي سأرتل مزموره الابدي “سنبقى في هذا الوطن الذي ليس لنا من وطن سواه”.!!
عبد عابدي “في ساحة الدار”
تجليات، ربما ليست صوفية، في رحاب معابد الفن التشكيلي هناك “في ساحة الدار” الريفية العابقة برائحة الليمون والبرتقال وعشبة حصى البان..
ريف في قلب مدينة حيفا، على اليمين من شارع طلعة الجبل الزاخر بالحركة والضوضاء.. تربض قطعة من ثرى الجنة، مر في رحابها الطيبون، جيل اثر جيل!! وبناء عقد بحجارة قديمة عايش سماء بلاده السلاطين والغزاة، الا انه بقي عربي الكلمة والتراب والانسان.! والآن .. الآن تزهر في فضائه الوان ريشة الفنان عبد عابدي في رحلة ميلاد متجددة.. هي وعد الاجيال الواعدة باننا “سنفهم الصخر ان لم يفهم البشر…” حيث سيشغل هذا المكان ورشة للابداع المرئي، كي يساهم في تجذرنا وبقائنا.. ويعمق لغة التواصل الانساني فيما بيننا بوسائل الحب والعطاء واستمرار الحياة. حيفا يا حيفا.. يا اغلى المدن على قلبي بعد يافا البحر والرمال والبرتقال!! صديقي الفنان التشكيلي حميدو وانا، جئنا نشارك ابا امير فرحته في افتتاح معرض “في ساحة الدار”.. فوجدنا الدار كلها ساحة من الطيب والياقوت والازهار.. وعيون من كل البلاد هنا.. رحاب وترحاب.. هو ضجيج الفرح المشبع بالهمس والابتسام .. وعِشرة الخبز والنبيذ، كتلك التي يكسرها ابن الانسان في العشاء الاخير. تتحول الريشة بين يديه الى ازميل تارة ليرسم فراغات في طين من تراب المكان.. ففي عمل هندسي الشكل يحمل فراغات دائرية تهذي بصوت هديل الحمام.. يذكرك الفنان عبد عابدي بتلك الايدي التي تعجن الصخر فتات لجياع الارض.. متتاليات لسبعة ايام واثني عشر شهراً.. هي قصة الوجود اليومي العظيمة حد السذاجة.. الا انها تستطيع ان تكون هنا عملاً فنيا حمل سحر الايام الخوالي كوثيقة في وجه الدهر والاقدار .. “انا هنا باقون”. مجموعة من الاعمال الجديدة تستقبلك في باحة الدار.. على الجدران القليلة هنا عمل كثير.. بالكيف والكم!! بيت الضيق يتسع لالف صديق!! ويتسع لاعمال تتحاور فيما بينها.. في البحث عن “المدينة الفاضلة” لفلسفة الارض القديمة بصوت افلاطون.. هذا الجدل الذي يستمر فينا الى ان ينتهي احتلال الشعوب، وتسقط كل جدران التخلف والعنصرية والقهر الوطني.. ففي لوحة ذات تقنية خاصة.. جمعت في تكوينها الانشائي كل معطيات اسطورة الانسان الفلسطيني.. حيث جعل عابدي الانسان الفلسطيني ذا قوة خارقة تستطيع ان تمر وتتواصل بشكل سحري عبر جدران من الاسمنت المسلح .. في حين حوّل جزءاً منه الى حبل غسيل، علق عليه راية حمراء نسجت في وسطها كوفية فلسطينية.. تعلن بذلك انها ثورة “ثورة ثورة حتى النصر.” كان الجدل المرئي هنا سيد المقام.. فما بين الدافع الملتزم لقضية شعب نحن جزء حي منه.. وبين موتيفات جمالية تتراقص على ضفافها زقزقة الوتر اللوني، جاء صوت النغم الحائر، حين تلتقي في تشكيل شيء هو شيء في الا شيء.. الا انه في آن واحد هو صفة جمالية للسفر عبر مخيلة الفنان، وعبر آفاق رحلته في البحث عن اجابات لاسئلة لم تولد بعد. فهذه الحبال المشدودة والمتراصة كسلاسل ذهبية حيناً.. وحينا هي طرق، ممرات، حقل سنابل، سجادة صلاة، صلة، تواصل، قيود… واشياء اخرى!! فانها في معظم الحالات تحمل في احشائها قطع ترميز فلسطينية.. ما بين كوفية وقطع زجاج وصولجان. انت هنا قصيدة بحروف فلسطينية مكتوبة بتراب الارض يا ابا امير.. لا خوف عليك من العمر والسنين.. فانت متجدد كمواسم العطاء، ولا خيار لديك سوى العمل والقليل القليل من العتاب.. واذكرك كي اذكر نفسي بما قالته الكاتبة احلام مستغانمي في “عابر سرير” عما نعاني منه.. “يكفيك نجاح واحد كي تخلق من حولك عشرات الاعداء”.