رغم الخسارات الفادحة، الشخصية والعامة، التي حفِلت بها ٢٠٢٠، الا انها ايضا لم تخلُ من لحظات فرح صغيرة. لعلّ اجملها ان اتيح لي ولكرمل،ابني ذي السنوات العشر، ان نقضي اسبوعا كاملا مستغرقين في الرسم، والحديث، عن كل ما يخطر على بال، مع بدء الحظر الاول، في نيسان الماضي.كنت قد اشتريت ادوات رسم جديدة،الوان وفراشي ولوحات ودفاتر نزولا عند رغبة كرمل، في ان نقضي وقتًا معا، ورغبة في تبديد ايام العزلة البيتية بشيء اخر سوى الكتابة والقراءة والجلوس الى طاولة المكتب لما يزيد عن ١٢ ساعة يوميا. قبلها بعدة اسابيع، وكنا في بيت اهلي، صدمنا كرمل بان غاب ساعة ثم عاد وفي يده خمس رسمات صغيرات بقياس 15/15 سم، خربشها على ورق من بواقي قصّ المطابع، كنت احضره معي من المطبعة لاخربش عليه، كان ثمة لوحات بالحبر الاسود والاخضر لنبتة الصبار، وكانت ملفتة، حتى اني اريتها لابي وامي لشدة ما فاجأتني بنضجها، وعندما احتضنته وقبلته قال لي جملة لن انساها ابدا: بابا، احنا لازم نكون زي الصبر، بشوّك من برا، بس حلو من جوا وطيّب. لاحقًا سأفهم ان تلك الجملة العميقة غير المألوفة من طفل في العاشرة، كانت طريقته في التعافي من منعه من التواصل الطبيعي معي، في اعقاب ظروف خاصة لم يكن لنا، هو وانا سيطرة عليها. منذ بداية ٢٠٢٠، ورغبة في تطوير مهاراته، سجّلته في دورة فنون مع الفنان الكبير، الصديق عبد عابدي، ورغم ان الدورة اقتصرت على لقاء اسبوعي وحيد، يوم الخميس، فقد كان فرحا انه يتعلم شيئا جديدا، وكان يشعر بالتميز لكون معلّمه، صديقي ايضا. فقد كنت احضر الدرس معه، وعندما يغادر الاطفال الاخرون يظل هو منكبا على لوحته، فيما اجلس مع ابي الامير على الفرنده الصغيرة باب مرسمه في شارع الجبل، نتحدث وندخن.في نهاية حزيران الماضي، وكنا، كرمل وانا، قد انجزنا بعض اللوحات لكل واحد فينا، احضرت بعضها معي الى درس الرسم، وحين انتهت الحصة، وذهب الاطفال الباقون مع اهاليهم، جلسنا كالعادة نتحدث، فقلت لعبد: اريد ان اريك بعض ما رسمناه انا وكرمل، وحين عرضت اللوحات امامه، واحدة بعد اخرى، كان رد فعله عاديا جدا، لكن ما ان وصلت الى لوحتي هذه(١٩ وجها) حتى قال لي ، وبدون مقدمات: واوو واوو هذه لوحة بديعة، اريد ان اشتريها. وانا، لفرط دهشتي وفرحي، ولاني لم اكن، وما ازال، اعتقد اني فنان حقا، رغم اني ارسم منذ بدات الكتابة، قلت: له يا رفيق، شو تشتريها، يكفيني شرفا ان هذا رايك فيها، ويسعدني ان اهديك اياها. وكرمل، الذي سمع كيف ان استاذه يريد شراء لوحة ابيه، قفز فرحا في الهواء وانتعش لدرجة انه ظل لاسبوع كامل يحكي القصة لامه واصدقائه في المدرسة ولكل من يلتقيه.
بين اللوحات التي اثارت انتباه الفنان الكبير عبد عابدي ايضا، كانت لوحة لكرمل، من اوائل اللوحات المكتملة التي انجزها على قماش، شجرة صبار وحيدة في اصيص، وقد انجز حتى اليوم، ما يزيد عن عشرين لوحة بمقاسات مختلفة واشكال والوان متنوعة. يومها، تكرّم الصديق عبد عابدي وعرض ان يستضيفنا، كرمل وانا، في معرض مشترك بمرسمه، (رغم انه لم يسبق له ابدا ان نظّم معرضا لفنان اخر في مرسمه) وشرع وسط ذهولنا انا وكرمل يحكي لنا كيف ان الامر فعليا بسيط؛ انزل لوحاتي وانقلها الى الغرفة الاخرى التي ارسم بها، ونعلق لوحاتكما هنا، ثم في الافتتاح يمكننا ان نجلس في الحديقة، ونأتي ببعض النقارش وبعض النبيذ وتمشي الامور. للسنة الثانية، ما يزال كرمل يداوم على دروس الرسم في مرسم عبد عابدي، وهذه السنة انضمّت راية ايضا، وانتقلت الحصة الاسبوعية من الخميس الى الجمعة. امس، بعد حصة الرسم، قال لي كرمل منفعلا: بابا، عمو عبد بسلّم عليك. ثم صمت قليلا واضاف: بس بابا هو شو بعرفو انك بالشارقة، قبل ان يستدرك، اه ما انتو صحاب، ثم يضحك بانتشاء وثقة، وكانت تلك المحادثة مع كرمل، وصداقة الفنان الكبير والنبيل عبد عابدي هي سبب هذه التدوينة. هنا، في المرفق البصري، لوحتي(١٩ وجها) ولوحة كرمل الذي ما يزال حائرا في تسمية لوحاته، وهما هديتانا المتواضعتان لصديقنا ومعلمنا ابو الامير، احتفاء بالصداقة والجمال والفن في زمن يضنّ بكل هذه القيم، على امل ان تنتهي احوال الكورونا ويصير ممكنا ان نعود لجلستنا على فرندة مرسمه، وبين لوحاته والوانه في شارع الجبل، احد الشرايين الباقية في جسد حيفا الحي.