في عام 1962 عرض والدي أوّل معارضه في تل أبيب، وذلك بمبادرة من نشيطي يسار مثل غيلا بلاص وزوجها شمعون، الشاعر عصام العباسي وآخرين. كان للحدث صدى ثقافي كبير لأنّ الفنان عابدي قُبل كعضو في نقابة الرسّامين والنحّاتين في حيفا. كان حينذاك في العشرين من عمره وأصغر الفنانين والعربي الأول الذي ينضمّ عضوًا للنقابة. كان من بين الفنانين المعروفين الذين زاروا المعرض: رئوبين روبين، ناحوم غوطمان ويهوشوع غروسبرد، حيث لعب الأخير دورًا مركزيًا في تشجيع والدي على السفر للتعلّم في الخارج.
نشر الشاعر محمود درويش مقابلة أجراها مع والدي في صحيفة «الاتحاد» حيث عرض رؤية ورغبة الفنّان الشّاب في إثراء محيطه الثقافيّ بواقع ثقافيّ مثلما رآه.
كان لمحمود درويش، سميح القاسم، إميل توما، إبراهيم مالك، حنا أبو حنا وعصام العباسي تأثير كبير على حياة والدي الفنيّة قبل سفره وبعد عودته في العام 1971.
دراسة أكاديمية في ألمانيا
شكّلت الفترة التي تعلّم خلالها في درزدن، ألمانيا، إحدى أهمّ مراحل حياة والدي لأنّ هذا كان اللقاء الأوّل مع ثقافة جديدة. فمدينة درزدن تتميّز بثقافتها الغنية وكذلك بتاريخها المأساوي الذي يظهر من خلال البنايات المهدّمة، قصور الملك أغسطس الثاني «القويّ»، أمير ألكتور في سكسونيا وبولندا، المتاحف والكنائس التي دُمّرت في غارات الحلفاء عام 1945.
هذه المشاهد ذكرت والدي بالنكبة وبتهجير عائلته من حيفا إلى مخيّمات اللاجئين في الدول المجاورة. لكن الوضع الثقافي والاجتماعي قبل الحرب العالمية الأولى، والوضع السياسي الذي قادته جمهورية فايمر، الفقر، الأزمة الاقتصادية، ونهضة حركات فنية مثل مجموعة «الجسر» (Die Brücke) ومجموعة «الفارس الأزرق» (Der Blaue Reiter) التي نمت في درزدن – كل هذه ساهمت كثيرًا في إثراء رؤية الفنان الشاب، وكذلك طباعات كيتا كولفيتش بالأسود والأبيض التي تناولت الأمومة والفقر، وأعمال ألبرخت ديرر وغرنفالد من القرن السادس عشر.
خلال دراسته في درزدن، كان عبد عابدي الشاب متحمّسًا للتعرّف على جميع جوانب فنّ النحت بما في ذلك الفنون المعمارية النيو كلاسيكية والباروك
بالإضافة إلى العلاقة الحسنة بين الطالب ومعلّمه، فقد ربطت عبد عابدي علاقة ثقافية متميزة مع ليئا غرونديغ، لكونهما يدعمان الشعوب المقاومة للإمبريالية، العدوان الإسرائيلي على الأراضي العربية وإخضاع الشعب الفلسطيني للاحتلال، والذي ما زال مستمرًّا حتى اليوم.
تجب الإشارة كذلك إلى العلاقة المتميّزة مع محاضريه، وخصوصًا المشرف الأكاديمي بروفيسور غيرهارد بوندزين، الذي اختار عابدي وعددًا من الطلاب للمشاركة في إنشاء جدارية ضخمة في قصر الثقافة (Kulturpalast) الذي أقيم في مركز درزدن عام 1968، وهي جدارية لا تزال تشكّل رمزًا ثقافيًا لهذه المنطقة في ألمانيا الموحّدة.
إنّ الإنجاز المتجسّد في إقامة هذا العمل إلى جانب مجموعة فنّانين، وكذلك الجائزة التي منحتها الدولة، ساهمت في بلورة الرؤية المستقبلية لدى عبد عابدي بشأن الإبداع لصالح المجموع/العام،/ بحيث يمكن من خلالها للفنّ البصريّ أن يساهم في خلق مناخ فنّي يوفّر فرصة للتعبير عن أمل المجتمع بالتطوّر والرفاهية. لاحقًا، أنهى التصميم النهائيّ لنيل شهادة اللقب الثاني وضمّ إقامة النصب التذكاري الأول بعنوان «تضامن»، حيث أقيم جزء منه في حرم المعهد الأكاديمي في مدينة أربورت. وقُدّم هذا العمل إلى جانب دراسته بعنوان «نصب تذكارية وعلاقتها بالفضاءات المعمارية والاجتماعية».
في سلسلة رسومات عابدي بعنوان «اللاجئون»، والمطبوعة بالأبيض والأسود، وتشكّل جزءًا من الأعمال التي أنتجها قُريب إنهاء دراسته، تبدو الشخصيات التي تلعب دورًا مأساويًا في المشهد الفلسطيني كما لو أنها مُموضعة في فضاء تابع لعالم آخر، لربّما مأخوذ من المأساة الألمانيّة بين السنوات 1905-1923 حيث واجهت ألمانيا أزمة اقتصادية والحرب العالميّة الأولى، والتي قادت إلى صعود جمهورية فايمر. تجدر الإشارة إلى أنّ فايمر كانت، أيضًا، مسقط رأس الفيلسوفين جوتيه وشيلر
في الفترة التي تناول فيها الفنّان الشاب فنّ الطباعة، مدفوعًا بمبادئ متصلة بحالة أبناء شعبه – اللاجئون والذين عانوا من نتائج حرب 1967 – وحين كان يستخدم فنه كوسيلة شعبية لنشر الأعمال كي تصل إلى الجمهور الواسع، كانت هذه «بروتوكولات» الفنّ الألماني، وخصوصًا الحركة التعبيرية التي بادرت إلى هذا التوجه، لأنّ على الفن أن يكون اندفاعيًا وذا قدرة على تجنيد الناس.
ساهمت السنوات السبع التي قضاها عابدي في هذا الجزء من ألمانيا كثيرًا في تمكينه من اكتساب معرفة وخبرة في مجالات تقنية فنّ الطباعة، الطباعة على الحجر والنقش على النحاس والخشب، وكذلك الطباعة الشبكيّة. كذلك، فقد تعلّم عابدي جوانب في النحت وتخصّص لاحقًا في فنّ الجداريات. هذه التخصّصات ساهمت هي الأخرى في تطوير عوالم كانت مغلقة وغير معروفة له سابقًا، قبل أن يبدأ دراسته.
كان لمبادئ المدارس الفنية القديمة تأثير واضح على أعمال عبد عابدي في فترة دراسته في درزدن. يبدو هذا واضحًا في مجموعة أعمال مطبوعة على لوحات خشبية، تحت عنوان «لاجئون من حرب الأيام الستّة، كما يبدو»، وهي سلسلة من ستة أعمال يعرض فيها العنصر الفلسطيني الذي يصف تدمير وتهجير الشعب الفلسطيني نتيجة للعدوان الإسرائيلي، وهو عنصر تراجيديّ قائم حتى اليوم
العودة إلى الوطن
مع عودته إلى حيفا عام 1971، بدأ والدي بالعمل كمصمّم غرافيّ لصحيفة «الاتحاد» ومجلّة «الجديد»، وكمعلّم في مراكز ثقافية بهدف رفع الوعي للفنّ بين الجمهور، وتطوير مجال الفن نحو فتح متحف وصالات عرض للمجتمع العربي في الجليل والمثلث والمدن المختلطة.
خلال ترافعه عن الدراسة التي قدّمها لنيل شهادة الدبلوم، الموازية للقب الثاني، شرح طالب الفنّ مراحل العمل، وكذلك رؤيته نحو المستقبل، التي ينوي تطبيقها مع عودته إلى وطنه، وعرّف هدف عمله بأنّه للصالح العام. ردًا على سؤال أحد المحاضرين الممتحنين أشار إلى أنه «لا يوجد لدى الأقلية الفلسطينية في إسرائيل متحف أو مكان ملائم لتجميع الموروث الثقافي لدينا، نتيجة لسياسة تجاهل مقصودة للأقلية الفلسطينية التي بقيت في وطنها. كذلك، فإنّ مجموعات مبدعين مثل فنانين بصريين، موسيقيين وممثّلين، تعاني من غياب جمهور داعمٍ ومشجّعٍ. لذلك، فإنّ عملي سيتناول الجداريات، فنّ الطباعة والملصقات، وسيطمح إلى تغيير التوجّه الإبداعي من أجل خلق كادر من المبدعين الشباب، وكذلك من مستهلكي الثقافة».
في مقدّمة الفصل حول الوضع الناشئ للفنّ الفلسطيني في الجليل، ذكر الفنان كمال بلاطة في محاضرة قدّمها في مؤتمر الجاليات العربية في الولايات المتحدة عام 1975، ونشرها في عدد من الصحف والدوريات الشهرية، بينها «الجديد» الصادرة في حيفا، والتي ترجمتها الفنانة الراحلة بشرى قرمان:
“إن اللافت للانتباه في ظهور فنّ فلسطيني لدى الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، قيام مجموعة صغيرة من الفنانين الشباب بدراسة الفنّ على المستوى الأكاديمي، وهم الراحل إبراهيم إبراهيم من قرية الرينة في الجليل، وعبد يونس من قرية عرعرة في المثلث، وخليل ريان من مدينة طمرة، وعبد عابدي الذي رجع قبل سنوات عدة من ألمانيا الشرقية. فقد ساهم الأخير وبشكل مميّز في تفعيل وتجنيد مسارات فنية برزت بتجنيد كوادر فنية بدأت مشوارها في رسم الجداريّات في مدينة الناصرة وكفرياسيف، حيث بدأت أوّل دورة للفنون تنشط في المجال الإبداعي والجماهيري يقودها عابدي.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الدورة شكّلت النواة لدورة بين خريجيها فنانون معروفون مثل إبراهيم نوباني، إيليا بعيني، كمال ملحم، سامر ميعاري وغيرهم. كذلك كانت بمثابة عامل مسرّع لإقامة أوّل نقابة فنّانين عام 1994 في كفر ياسيف، «إبداع».
2،1 النصب التذكاري ليوم الأرض
على أثر أحداث «يوم الأرض» عام 1976، التي أدّت إلى قتل ستّة مواطنين من الجليل والمثلّث، توجّهت اللجنة الشعبية للدفاع عن الأراضي إلى والدي ليُقيم النصب التذكاري الفلسطيني الأوّل في سخنين، والذي تمّ عام 1977.
كما ذُكر، كان هذا النصب التذكاري الأوّل بمقاييس كبيرة الذي شيّده في الحضرة الفلسطينية، في بلدة سخنين، عبد عابدي وزميله الفنان الإسرائيلي غرشون كنيسبل. أقيم النصب التذكاري لذكرى ستة شهداء قتلوا دفاعًا عن الأرض، الكرامة والمساواة بسبب قيام إسرائيل بمصادرة الأراضي في قرى دير حنا، عرابة وسخنين، وبفعل سياسة قمعية عشوائية من قبل حكومات إسرائيل المتعاقبة ضد الفلسطينيين الباقين في وطنهم.
النصب التذكاري أقيم في المقبرة الإسلامية رغم رفض سلطات التخطيط والبناء ذلك، والتهديد بهدمه فيما لو أقيم على أرض البلدة. وقد تمّت إزاحة اللثام عن النصب في 30 أذار 1977، يوم الذكرى الثانية لحمام الدماء، بحضور آلاف السكان العرب ويهود تقدّميين.
لأجل بناء هذا النصب التذكاري، تم تجنيد كادر من البنائين الذين بنوا قاعدته من الباطون المسلح وساعدوا في تركيب الشخصيات المصنوعة من ألومنيوم مصبوب، والتي تحكي قصة النصب التذكاري من خلال عرض الأمهات اللاتي ثكلن أبناءهن الشهداء الذين دافعوا عن الأرض وعمّن بقي فيها
النصب التذكاري مبنيّ بشكل تابوت حجريّ، تابوت رخاميّ مستطيل نُقشت عليه عناصر لوجوه وزخرفات، وهي تميّز فنون الدفن اليونانية والرومانية.
في الذكرى الثالثة ليوم الأرض، أصدر عابدي وزميله كنيسبل كتالوج يوم الأرض بعنوان «قصّة النصب التذكاري»، وساهم فيه أيضًا الشاعر سميح القاسم والكاتب يهوشوع سوبول. واشتمل على صور وتصميمات مستوحاة من واقع الفلسطينيين، ومن نضال الناس عمومًا من أجل مجتمع أفضل. صدر الكتالوج عام 1978 بطبعة مرقمة وموقعة من الفنانين.
وكتب عبد عابدي هناك:
“وقد يكون عملنا المشترك، الزميل غرشون كنيسبل وأنا، تجسيمًا لفكرة التعاون الخلاق بين أبناء الشعبين من أجل أن لا تتكرر المأساة وأن يكون عمل الحاضر – هذا الحاضر الذي نتمنّى أن يسلم المستقبل أنصابًا للسلام ولتواجدنا المشترك على هذه الأرض».
2.2 إيكروس في حيفا
خلال الفترة التي عمل فيها عابدي في «الاتحاد»، سكنت أسرته في بيتهم مع الجدّ والجدّة، وهو ما أثر بشكل جدّي على أعمال والدي في ثمانينيات القرن الماضي.
أحد أعماله المثيرة رُسم على الخيش مرّتين: في العمل الأصلي رسم والدي أخي أتيلا كطفل عالق بين مباني وشوارع وادي النسناس الضيّقة، مُحاطًا بالبيوت. فكرة الرسمة والنتيجة لم ترضيا الفنّان، فغطّاها بلون أبيض واستبدلها برسمة الطفل الذي يطير نحو الضوء، يعلو فوق البيوت نحو اختراق الحصار
موضوع إيكروس المأخوذ من الميثولوجيا اليونانية يظهر في عدد من أعمال عابدي. في أحد هذه الأعمال يبدو بلا جناحين ويطير فوق سطوح الأحياء الحيفاوية، يمدّ طيارة ورقية يحملها وخيطها الفضيّ إلى البعيد وصولا إلى رأس الناقورة، النقطة التي عاد منها والدي مع أمّه، أخيه وأخواته إلى مسقط رأسهم بعد أن عاشوا في مخيّمات اللاجئين في بيروت ودمشق لمدّة ثلاث سنوات. تسنّت عودتهم بمساعدة ما يسمّى «لمّ شمل العائلات لأسباب إنسانيّة
في أعمال أخرى من سلسلة الطفل الطائر، يتحوّل إيكروس إلى طفل وسيم يطير فوق العالم مع طائرته الورقيّة، بالضبط كما يظهر في أعمال ليوناردو دافنتشي. هذه الرسمة تمّت بتقنية الطباعة الشبكية ووزّعت بثلاثين نسخة، وقُدّمت إحداها إلى الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور، من مواليد حيفا، وهو لاجئ، أيضًا. في المقابل، كتب دحبور قصيدة خصّصها لوالدي حين زاره في حيفا عام 1997.
2.3 حيفا، الوطن الأوّل
جدّي وحيفا 1948
توفّي جدّي قاسم عام 1992 في سنّ 94 عامًا. عام 1993 توفّي عمّي ديب في جيل 54 عامًا على أثر مرض عضال، وفي العام 1996 توفّيت جدّتي خيرية أيضًا. كانت لهذه الأحداث أكبر أثر على أعمال والدي في تلك السنوات.
لقد كنت شاهدًا على مناشدته الدائمة لجدّي قاسم كي يجلس في الإستوديو كي يرسم وجهه في رسمة بعنوان «تطهير عرقيّ للسكّان العرب في 22 نيسان 1948». في البداية، أصرّ جدّي على الرفض لكنه استجاب أخيرًا. وهكذا جاءت الرسمة التي وثّقت التهجير من حيفا عام 1948 عبر الميناء إلى «عالم مجهول»، كما اعتاد عمّي ديب عابدي القول قبل وفاته عام 1992.
توفّي جدّي عام 1992، لكنّ وجهه المجعّد وقبّعته الصوفية الرمادية التي اعتاد أن يعتمرها ظلّت في مركز الصورة التي تصف تهجير معظم سكان حيفا العرب عبر البحر في طرق يعتليها الغبار إلى أنحاء مجهولة في الشتات، حيث لا يزالون ينتظرون العودة إلى وطنهم.
ولد جدّي قاسم عام 1900 في حيفا (ويقال إيضًا إنّه ولد عام 1898)، والده هو ديب عابدي الذي ولد هو الآخر لعائلة فلسطينية في حيفا عام 1860
والدة جدّي، زهرة، هي ابنة لعائلة لبنانية من آل المختار، أصلها من طرابلس واعتادوا على تسميتها «عائلة العذراء». تعود جذور جدّتي خيرية الحاج إلى لبنان ومصر، والدتها هي فاطمة القلعاوي، بينما تعود جذور عائلة الحاج إلى مصر. وهكذا، فإنّ والدي عبد الرحمن عابدي الذي وُلد في حيفا، يحمل تواصلاً ثقافيًا يمتدّ على مدى الساحل من بور فؤاد المصرية مرورًا بكفر لام قرب قيسارية، وصولا إلى حيفا، صيدا وطرابلس في لبنان. كذلك، فإنّ عمّتي لطفية عابدي بدوان لا تزال لاجئة في مخيم اللاجئين اليرموك قرب دمشق، مع أولادها، أحفادها وأبائهم. إنها لا تزال بانتظار العودة إلى مسقط رأسها حيفا.
قريب انتهاء فترة دراسة والدي في شرق أوروبا، تعرّف على جوديت من هنغاريا التي درست هي الأخرى في درزدن، حيث عاش والدي ستّ سنوات. تزوّج والداي في بودابست في خريف 1970. جاءت والدتي في أعقابه إلى حيفا، حيث ولدت أنا في أيار 1972. أخي أتيلا ولد يوم إزاحة اللثام عن النصب التذكاريّ في سخنين في 30 آذار 1977. عام 1985 ولد أخي الأصغر جونيل في الفترة التي بدأ والدي بالعمل فيها مُحاضرًا للفنّ في الكلية العربية للتربية في حيفا
بالإضافة إلى هذه الأحداث المثيرة، وأهمّيتها في خلق أسرة، نشأت أيضًا حياة مثيرة تدمج مركّبات مدنية وثقافية من الشرق والغرب معًا، قادت إلى خليط متميّز بين ما كان وما سيكون. هذا الخليط شكّل الواقع الذي عشت فيه مع أخويّ وتضمن تعدّدية اللغات، أنماط حياة مختلفة، تقاليد وأساليب لاكتساب المعرفة – وكان عليها جميعًا التعايش معًا.
2.4 قصّة أعمال أنجزت مؤخرًا
الأعمال التي أنجزها والدي في تسعينيات القرن الفائت، جمعت بين ألمه الشخصي وبين التأثير القويّ للانتفاضة وآثارها على رواية شعبه.
كان للوحات التي رسمها والدي بوحي من أحداث الانتفاضة الأولى ووضع الفلسطينيين في نهاية التسعينيات تأثير عميق على مشاعره الإنسانية والروحية، وخصوصًا اللوحة التي رسمها بعد وفاة جدّتي خيرية عام 1996. حيث تبدو ملفوفة بالكفن أشبه بالشبان الذين قتلوا في الانتفاضة، وتذكر بطقوس الموت الفرعونية والكفن الأبديّ الذي يلفّ الموتى هناك، أو ما يسمى في الموروث اليهودي «غنيزا» – جمع كتب التوراة المكتوبة بخط اليد والحفاظ عليها حتى موعد الدفن.
2.4.1 قصّة لوحتين
قبل فترة، حين زرت حيفا لتوثيق جميع لوحات ورسومات والدي لغرض عرضها في موقعه الجديد على الإنترنت، وجدت لوحتين تركتا فيّ انطباعًا عميقًا. الأولى لوحة لجدّتي في شبابها وهي تضع منديلا أسود تتسلّل منه أطراف رقيقة لشعر أسود، وحول عنقها عقد اللؤلؤ الذي رافقها طويلا.
تلك المرأة كانت كما لو أنها تجلس مقابل الفنّان النمساوي غوستاف كليمت بانتظار أن يرسمها في نهاية القرن التاسع عشر. لكنّ خلفية الرسمة تأخذ المشاهد إلى عالم مخيّمات اللاجئين التي يظهر فيها نسيج خشن استخدم لأكياس السكر أو الطحين التي تم توزيعها على الفلسطينيين من قبل وكالات الغوث.
اللوحة الثانية التي تصف شخصية والدتي، والتي رُسمت من قبل، نُقشت على خشب وطبعت، أنجزها والدي حين كان طالبًا. كما ذكرت، أعماله في سنوات دراسته الأولى في ألمانيا تأثرت إلى حدّ ما بالرسّام الألماني من أصل هنغاري، ألبرخت ديرر.
عنصر الوجه يبدو كأنه مغطّى بنسيج فلسطيني شعبي، يغطّي امرأة تظهر أنها أوروبية وتعبر عن تضامنها مع مسائل مركزية تتعلق بشعبه الثاني، بشعبينا