يضع المعرض “قصّة النصب التذكاري: سخنين 1976-2006” في مركزه النّصب التذكاريّ لإحياء يوم الأرض في سخنين، كفضاء من النضال، الذاكرة والهويّة لدى الأقليّة الفلسطينية في إسرائيل.
نُظّم يوم الأرض الأوّل في 30.3.21976 احتجاجًا على قرار الحكومة مصادرة 20000 دونم في منطقة سخنين لغرض “تهويد الجليل”. وقد دعا قادة الحزب الشيوعيّ الإسرائيلي وعدد من رؤساء السلطات المحلية في الجليل الى إضراب عامّ ومظاهرات احتجاجيّة في الثلاثين من آذار. جرت المظاهرات، في الأساس، في قرى سخنين، عرّابة ودير حنا. وخلال المظاهرات اصطدمت قوّات الجيش الإسرائيلي بالمتظاهرين حيث جُرح العديدون وقُتل ستّة أشخاص. القتلى الستّة هم: خير محمّد ياسين من عرابة، رجا حسين أبو ريا، خضر عبد خلايلة وخديجة شواهنة من سخنين، محمّد يوسف طه من كفركنا ورأفت الزهيري من نور شمس، الذي قُتل في الطيبة.
في السنة التّالية ليوم الأرض قرّر عبد عابدي وغرشون كنيسبل إقامة نصب تذكاري لإحياء يوم الأرض في سخنين، وذلك بدعم من رئيس مجلس سخنين المحلي، حينئذ، جمال طربيه. وفي 30.3.21977، يوم الذكرى السنوية، عرض الفنّانان أمام اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية وجمهور غفير في الجليل نموذجًا للنّصب التذكاري.
إستمرّت إقامة مبنى النّصب التذكاري في أواخر آذار 1978 عدّة ساعات، بجهود مشتركة لعدد من عمّال البناء من سخنين. ويشير تمير شورك ((Sorek Tamir, 2002 ، إلا أنّ الشرطة اعتقلت رئيس مجلس سخنين المحلّي جمال طربيه، خلال بناء النّصب التذكاري، بتهمة منح ترخيص لبناء غير قانونيّ، لكن تمّ إطلاق سراحه بعد عدّة ساعات.
في يوم الخميس، 30.3.1978، أقيم حفل إزاحة الستار عن النصب التذكاري في مقبرة سخنين. وكتب مراسل “هآرتس” في الجليل (31.3.1978) ضمن تغطية الحدث:
“مرّ يوم الأرض، أمس، من دون أية مظاهر عنيفة ولم تكن حاجة في تدخّل الشرطة. أحيا المواطنون العرب في البلاد الذكرى في نشاط مركزيّ واحد – في قرية سخنين في مركز الجليل (…) تمّ في الاعتصام الكبير في سخنين إزاحة الستار عن نُصبٍ لذكرى قتلى الصّدامات منذ سنتين، وهو من عمل الفنّانين غرشون كنيسبل وعبد عابدي من حيفا (…) وقد احتشدت في الاعتصام جماهير بالآلاف من أرجاء البلاد. وتحدث في الاعتصام أعضاء الكنيست من الجبهة توفيق طوبي، مئير فلنر وحنا مويس، وعدد من رؤساء المجالس المحلية (…) وقد حلّقت مروحية تابعة للشرطة من حين إلى آخر فوق القرية، وعُلم لاحقًا أنّها قامت بتصوير المشاركين في الاعتصام”.
لقد تحوّل هذا الاعتصام إلى حدث مركزيّ في الذاكرة الجماعية لدى الأقلية الفلسطينية في إسرائيل. ويشير شورك إلى أنّ هذه هي المرّة الأولى التي ظهر فيها، ولوقت متواصل، رمز وطنيّ فلسطينيّ في الحيّز العام.
منذ 1978 وحتى اليوم، خلال نحو ثلاثين عامًا، يتحوّل النّصب التذكاري في كل يوم للثلاثين من آذار إلى موقع مركزيّ في مناسبة إحياء ذكرى أحداث يوم الأرض في الجليل. وتعكس هذه المناسبة الموقع التأسيسيّ ليوم الأرض في الثقافة والوطنية الفلسطينيتين ولكنها تشكّل، في المقابل، مسرحًا لصراعات سياسية اجتماعيّة وثقافية، تتغيّر من فترة إلى أخرى. وتنعكس هذه الأحداث في صور صحفية توثيقية توثّق مناسبات إحياء يوم الأرض في سخنين. وقد عُرض قسمٌ من هذه الصور على مرّ السنين في الصّحافة العربية، وخصوصًا في صحيفة الاتحاد التي غطت، بصورة موسّعة، وبشكل مستمرّ، مناسبات يوم الأرض في البلدات العربية في الجليل.
يظهر عبر صور كلّ من: رفيق بكري، أمين بشير، غدعون غيتاي، سلام منير ذياب، يارون كمينسكي، وغيرهم، أنّه تتوالد أيقونوغرافيا من الذاكرة والحداد المتميّزين للأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل. وتقوم هذه الأيقونوغرافيا على الطيف اللوني للأعلام (علم فلسطين الأحمر-الأبيض-الأسود- الأخضر، أعلام الحزب الشيوعي الحمراء والأعلام الخضراء لدى الحركة الإسلاميّة)، وعلى رموز تتكرّر في مسيرات الذكرى كصورة وجه تشي غيفارا كقائد للثورة، صورة المنجل والمطرقة لدى الحزب الشّيوعي، وصورة الطفل “حنظلة” للرسام ناجي العلي. يمكن أن نرى في الصّور المسيرة المركزيّة الحاشدة، المناسبات في المدارس، الشخصيات الجماهيرية تعتلي الدرجات بأكاليل الورود التي تحمل اهداءات للشهداء، تلاوة الفاتحة والنظرة من خلال اليدين، ووضع أكاليل الورود والخطابات في الجمهور في الباحة التي أمام النصب التذكاري.
في السنوات الأخيرة تجري زيارة النصب التذكاري في مقبرة سخنين، أيضًا، كلّ أكتوبر، في ختام “المسيرة لذكرى الشهداء”، قتلى أكتوبر 2000. وهكذا، فبمرور السنين تتعاظم مكانة النصب التذكاري كموقع مركزيّ للذكرى والحداد في الثقافة الوطنيّة الفلسطينية.
على الرّغم من الطابع الآنيّ للمسيرات، فإنّ الخطابات تعود على الدوام إلى العلاقة بين الأقليّة الفلسطينية وأرضها. هذه العلاقة، هي الموضوعة النحتيّة المركزية في النّصب التذكاري الذي جاء بصورة نعش ذي أربع جهات. المجسّمات على كلّ واحدة من الجهات هي عبارة عن قالب ألومنيوم مصبوب يبدو من بعيد أشبه بالصلصال. في الجهة الأولى تمّ نحت شخصيّة ترفع ما يشبه سلّة غلال كبيرة أو حجرًا كبيرًا وشخصيّتين انحنيتا لجمع الحصاد. وكُتب بالعربيّة، العبريّة والإنجليزية: “صمّمه عبد عابدي وغرشون كنيسبل تعميقًا للتّفاهم بين الشّعبين”. على الجهة الأخرى كتب “المجد والخلود لشهداء يوم الأرض 30.3.1976”. وعلى الثالثة نُحتت صورة لامرأتين ثاكلين وهما على ركبتيهما، فيما تغطي راحات أيديهنّ وجهيهما، وبين الشّخصيّتين كُتب بالعربيّة فقط: “استشهدوا لنحيا.. فهم أحياء – شهداء يوم الدفاع عن الأرض، 30.3.1976، وكذلك أسماء القتلى وبلداتهم. على طرف الجهة اليُسرى يبدو ما يشبه حفرة، في حين تطلّ من داخلها يد من غير الواضح إن كانت تتمسّك أم تطلب العون. أمّا الجهة الرابعة فهي تخلو من أيّ نص. وتبدو الشخصيّتان عليها متمدّدتين كجثّتين الواحدة تحت الأخرى، وهما تخلقان منظورًا أفقيًا وهادئًا. إلى جانب النّصب التذكاري، وبشكل منفصل عنه، هناك المحراث. فحين يجري قتل زارعي الأرض، يظلّ المحراث يتيمًا مكسورًا.
إنّ وفاة زارعي الأرض والدّعوة إلى عدل كونيّ، هما ما يتمحور في صُلب العمل المشترك لكل من عبد عابدي وغرشون كنيسبل. وقد انعكست هذه الدعوة في منشورات عام 1978، لمجموعة مطبوعات لافتة في اتّساعها، وقد ضمّت: رسوم الإعداد وصور النّصب التذكاريّ فور إنشائه، ونصوصًا لسميح القاسم، يهوشوع سوبول، وللفنّانين عبد عابدي وغرشون كنيسبل.
هذه النّصوص بالعربية، العبرية والإنجليزية المنشورة هنا على التّوالي، كُتبت قبل نحو ثلاثينَ عامًا. لكن، يبدو أنّ التضامن الإنسانيّ الذي يهبّ من بين سطور النصوص، بعيد جدًا من هنا. إنّ النصب التذكاري هو التعبير الأوّل في الحيّز العام عن هويّة وذاكرة الأقليّة الفلسطينية في إسرائيل، وبالنسبة لفترته فقد أطلق دعوة من أجل التّضامن، العدالة والتفاهم بين الشّعبين. ومن اللائق اليوم العودة إلى هذه الدعوة النصيّة والجماهيريّة.