منذ أقدم العصور وُجد الفن ليس لنفسه بل ليحدثنا عن مجتمعه والسيرة الخاصة الداخلية لهذا المجتمع. وُجد الفن أيضا ليمجد بشكل او بآخر ذروة تطور مجتمعه، وخير مثال على ذلك هو برج بابل عند السومريين والكوليزيه عن الحضارة الاغريقية . والاثنان يعكسان صورة واضحة عن درجة رقي المجتمع ودرجة الوعي العام والفردي في مرحلة تاريخية معينة. فالانتاج الفني هو ترجمة لواقع هذا الوعي .
كتاب جلجامش، على سبيل المثال يعرفنا على نمط الحياة السومرية وفكرة الحياة والموت والأزلية في تلك الحقبة، كما يحدثنا مسرح الكوليزيه عن مدى تطور الفن المعماري في الحضارة الاغريقية، وكذلك الأهرامات في مصر تدل على مدى القدرة الهائلة عند الفراعنة في البناء والذي حتى يومنا هذا لم يستطع أحد ان يفسر كيف تم ذلك .
كتابات سقراط وأفلاطون لا تزال حتى اليوم تدرّس لفهم الفكر الاغريقي وفلسفته في الحياة، ومدى مثالية الاطروحات الافلاطونية التي لا زالت مصدر جدل في البحث عن “الحقيقة المطلقة” والتي ترى كيف يمكن ان تكون “سعادة الانسان” المثالية وذلك منذ مئات السنين . وهذا يذكرنا، بدون شك، بأهمية الكتابات العربية لحقبة ما قبل الاسلام والتي تتمثل بالمعلقات وغيرها، فالمعلقات تتحدث عن نمط الحياة، عن الحب، عن الصحراء، عن الواقع الذي كان يعيشه المجتمع والتعددية الفكرية والدينية السائدة في تلك الفترة .
فالفن هو اذا صورة عن وعي الانسان ودرجة تطوره وايضا، هو انعكاس الوعي الفردي والجماعي في المجتمع وعن طموحاته وأحلامه ورغبته بحياة أفضل .
انطلاقا من ذلك ماذا يقول لنا الفن الفلسطيني اليوم عبر أحد من يمثله في أجمل صورة، الا وهو الفنان الفلسطيني عبد عابدي، والذي قضى خمسين عاما في الابداع وما زال يواصل المسيرة .
المناسبة التي جعلتني أتحدث وبفخر عن الفنان عبد عابدي هي مشاركته في معرض عالمي في فرنسا وهو “معرض فولتي” والذي أقيم في مدينة قرب مدينة طولوز وهي مدينة جميلة جدا .
ولد الفنان أنطونيتشي فولتي في عام 1915 في مدينة ألبانو الايطالية، وهو فرنسي من أصل ايطالي وتوفي في عام 1989 وهو نحات ورسام في نفس الوقت، لكن شهرته العالمية نسبت اليه كنحات، ينتمي الى مدرسة النحات الكبير “رودانا” وايضا الى بورديل، مايوت، وهنري مور.
وكل تماثيله الفنية المنحوتة تعظم المرأة وتمجدها عبر الجسد. اعماله الفنية موجودة ومعروضة في مدن عديدة في فرنسا، باريس، أورليان، أنجية وكولومب، وكان يمجد الحياة معتبرا “أن المرأة هي صورة تمثل فن الحياة” له متحف خاص يحمله اسمه في مدينة فيل فرانش سورمير .
* عودة الى عبد عابدي :
المعرض الذي شارك فيه عبد عابدي هو عبارة عن اهداء الى الفنان فولتي شارك فيه الكثير من الفنانين على صعيد عالمي واستمر خلال عشرة أيام من يوم 9 حزيران الى 20 حزيران الجاري .
حضر حفلة الافتتاح في مدينة كارلابيل رئيس بلدية المدينة جان لوك كوربيه وممثل الدولة بيلان وشارك فيه ايضا رئيس الوزراء السابق لوران فابيوس.
أهم خصائص هذا المعرض تكمن في مشاركة فنانين عالميين من كل اوروبا أي ان صداه كان عالميا، ومن الخصائص المهمة ايضا هي حضور لفلسطين عبر مشاركة الفنان عبد عابدي حيث شارك بثماني عشرة لوحة أذكر منها : وجه فلسطيني، أمام الحائط، نساء في الانتظار، أم وابنها، خيمة في الربيع، وداع، القصبة، نساء ينتظرن تحت الشمس، وكيفية على الحائط.
هذه اللوحات أثارت فضول الناس بشكل ايجابي، كيف يمكن النظر الى هذه اللوحات وما هي الايحاءات التي تدخل الروح من خلالها، وهذا ما أود أن أتكلم عنه .
إنتاج أدبي او فلسفي لكنه من الصعب الكتابة بعمق عن الانتاج الفني لعبد عابدي، لأن فنه غزير وممزوج بعلاقة عضوية مع شعبه والتاريخ، ولأن فنه هو نتاج تجربة انسانية وايضا لأن فنه يقوده الفكر الثابت والانتماء لبلد وقضية هو الفكر والفلسفة معا وهذه هي مؤشرات اساسية تدل على عمق الانتاج يضاف اليه المعاناة الحميمية .
فن عبد عابدي لا يدور في المطلق بل ينتمي الى وطن اسمه فلسطين والى سيرورة تاريخية بدأت بتراجيديا الشعب الفلسطيني .
رسم عبد كل ذلك بريشة القلب والعين والفكر بأفق انساني، رافعا الذاكرة كعلم للوطن المنشود، وهذا ما أحس به الناس في فرنسا .
رسم عبد بوجدانه وهنا بالامكان ان نقول دون تردد هو ان عبد أصبح اليوم “وحي الوجدان الفلسطيني” كما كان يقول شاعرنا محمود درويش :أنا صوت شعبي.
هنا المسيرة الذاتية واكبت السيرة التاريخية رابطة التاريخ الحميمي بالتاريخ الموضوعي جمع عبد كمحمود درويش الاثنين وجمعهما في لحظات “المأساة” الفلسطينية، هكذا أصبح التاريخ لوحة او نحتا والعكس ايضا .
شعبه يفهم فنه لأنه مرتبط به ويعبر عنه وعن أحاسيسه وعن ضميره الداخلي لذا أكرر ان أعمال عبد تمثل الوجدان الفلسطيني كما مثله محمود درويش في الشعر .
ومن هذا المنطلق يمكننا ان نقول وبدون أي شك ان عبد عابدي هو فنان عضوي بالمعنى النبيل للكلمة حسب تفسير الفيلسوف الايطالي انطونيو جرامشي. ولأنه ايضا انطلق من فلسطين ليصل الى الكونيبه لتأخذ أعماله طابعا فلسطينيا انسانيا وعالميا .
وليس غريبا ان ينشط في روحه وأعماله الفنية حب الوطن والتسامح الانساني الكبير لأنه ابن حيفا البار والمبدع، وحيفا كما نعلم جميعا أنجبت مبدعين في كل الفنون والآداب مثل محمود درويش، سميح القاسم واميل حبيبي …
يذكرنا الكاتب الحيفاوي الدكتور ماجد خمرة ان حيفا منذ أكثر من قرن عرفت التسامح ومارسته حقا . جده عبد الرحمن الحاج كان اول رئيس لبلدية حيفا (1920 – 1927) حيث خيّم على قيادة البلد جو من التفاهم والحوار والاستقرار.
ويذكرنا ايضا بشبتاي ليفي الذي كان يمثل الطائفة اليهودية والذي اصبح رئيسا للبلدية في عام 1940 حتى عام 1950 .
الجميع يعلم ان الفنان عبد عابدي هو احد أركان تطور الفن الفلسطيني المعاصر واستطاع بلورة الهوية والبقاء.
واصبح كما يقول سعيد ابو شقرة “رأس الحربة” في هذا المجال. كل الذين شاهدوا في فرنسا لوحات عبد عابدي لاحظوا ان اعماله تعبر عن آلام شعبه وعن الذاكرة الجماعية وان “ريشته في الوجع القومي والانساني للشعب الفلسطيني” كما يقول الشاعر سميح القاسم .
عبد في كل لوحة تجد سهاما تصل الى القلب عبر ريشة زيتونية والتي فتنت عيون الحاضرين عندما تصل السهام اليهم قائلة الحب والحرية والنور في بلد ما زال مظلما .
لذلك يمكننا ان نردد مع فرديريكو جارسيا لوركا : خيرا فعلت، في هذا الزمان المنفلت وبلاد تشك بالحب والتسامح رفرفت ريشتك كالحمامة في فرنسا لتقول مع فولتي”لم نكن ننشط الا بروح العدالة والحقيقة والسلام “ونزرع بذرة لننتج يوما محصولا” وهذا ما تفعله يا رفيقي وصديقي الغالي عبد .
كل الذين زاروا المعرض ستبقى لوحاتك نابضة في ذاكرة كل واحد منهم وكانوا مئات ومئات … انت لفلسطين وهي تستحق هذا الابن البار والمبدع وكل فلسطيني يحضر المعرض يكون فخورا بك .
والفرنسيون منهم من رأى فيك كمعبّر عن تراجيديا فلسطين بروح وفن صاعدًا الى السماء، والبعض الآخر يرى ان تعبيرك الفني مصورا اياه جناحين يطوفان في عالم الفن كي ترى الأجيال القادمة انك بريشتك الزيتونية ترسم عصر تنوير جديد حر وعنيد من أجل الحب والتسامح والحرية .
الخميس 30/6/2011