كنت قد ذكرت في اكثر من سرد شخصي لسيرورة التهجير لعائلتي والعائلات الحيفاوية التي انتمي اليها من حيفا, الى دول الجوار في عام النكبة, وبالذات لليوم المشؤوم بتاريخ 22.4.1948, يوم سقوط حيفا .
كان عمري ستة اعوام وشهرين لكنني اتذكر الاحداث التي مرت علينا حين مغادرتنا بيتنا الكائن في شارع ستانتون (שיבת ציון) لاحقا الى بيت القلعاوي, اقرباء والدتي خيريه والاقرب مسافة الئ بوابة التهجير في الميناء (بوابة رقم 2). مشينا مذعورين وفازعين من هناك الى تلك البوابةالمشؤومة التي كلما اكون قريبا منها اتذكر لحظة الخروج وجموع الفلسطينيين القاطنين في البلدة السفلى يدخلونها بطوابير كبيرة تخلصا من احتمال وقوع مذابح بحقهم واملا في ترقب الاحداث والرجوع قريبا.
في ذلك اليوم فرغت حيفا من ساكنيها, وفي ايام عده تقلص عددهم من 75000مواطن الى 2800حسبما هو مسجل في احصاء دائرة التسجيل الاسرائيلي والكائنة في بناء وزارة الداخلية مقابل مبنى البلدية,.!كيف تركوا…؟!
كيف تركنا ؟! هل تبخروا وتبخرنا في المياه التي نقلتهم ونقلتنا عبر المراكب الكبيره وزوارق الصيادين الراسية في شاطئ السيقلي في شاطئ “شيمن” والقريب من الميناء,او مرفا الصيادين في شط الخضر بن عباس جنوب المدينة!؟!
وهل الزحافات البريطانية التي قامت بنقل السكان بشكل لبق دون فحص ودون مراقبة دائرة الهجرة… ودون مقابل !!!
بعكس ما قامت به مصلحة القطارات في المانيا–ال Deutsche Reich Bahu”” بنقل المواطنين اليهود الى معسكرات الاباده في ما يدانك وبوخنفالد القريب من فايمر مدينة الفلاسفة والشعراء غوته وشيلر!! كلهم غادروا وكلنا غادرنا عدا… ابي … قاسم ديب عابدي الذي ابى مغادرة حيفا, التي ولد جده فيها.
تذكرت جملته الاخيرة قبل رحيلنا في ساحة دار القلعاوي الذين اشتهروا بنجارة اللحوم, راجين مرافقته لنا والخروج لحين تهدأئة الاجواء والعودة بعد ايام.. سابقى هنا..! قالها باصرار لكن بنوع من التوسل ان ابقوا هنا, سوف لا يحدث لكم اذى!!
لقد تركناه وحيدا في حيفا نتيجة ضغط الاقرباء من طرف عائلة والدتي, الحاج, وكذلك من طرف عائلة والدي المالكين لعقارات كثيرة في حيفا السفلى والهدار(بيتهم في شارع سيركين رقم 7). تركناه سعيا لركوب البحار الى عالم مجهول, مجهول كما رددها اخي طيب الذكر في كتابه“خواطر زمنية” قبل وفاته بايام.
“تبخرنا” في شتات الغربة ولمدة ثلاثة اعوام, قضيناها في مخيمات المية ومية والكرننتينا القريبة من ميناء بيروت ومن ثم الهرب من المخيم الى دمشق حيث سكنت شقيقتي البكر لطفيه هناك ووصلت مع عائلتها من حيفا عبر شرق الاردن ومن هناك الى هناك!!
لقد كنا اصحاب حظ بان نرجع ثانية الى حيفا بعد معاناتنا عن طريق الصليب الاحمر وضغوط كبيرة مورست من قبل المؤسسات الدولية,السماح للبعض بالرجوع ضمن ما يسمى “عمل انساني” في لم الشمل (איחוד משפחות).ذلك البند اتاح لبعض الالاف من الفلسطنين الرجوع لوطنهم.
*******
علمنا يوم رجوعنا الى حيفا ان احد اصدقاء ابي وشريكه في خان الصرصور وكذلك اخرون هم من ساعدوه في تعبئة النماذج, انه حايم شميدت, الملقب “شميدو” شريك والدي في تجارة الخيل والحمير والبغال, سكن في مستوطنة موتسكن او كفر–اتا القريبة من شفاعمرو في زمن الانتداب وبعد قيام دولة اسرائيل بسنوات.
خان الصرصور… سوق الخردوات في وادي الصليب.
رجعنا في اواسط سنوات الخمسين الى حيفا دون شقيقتي الكبرى لطفيه التي ما زالت هناك في غربتها بمخيم اليرموك هي واحفادها واحفاد بناتها وابناؤها, رجعنا بعد ان دفنا جدنا نايف الحاج اخ عبد الرحمن الحاج رئيس بلدية حيفا انذاك في مقابر مدينة صيدا اللبنانية في عام 1949. رجعنا بعد ان ودعنا جدتنا فاطمه القلعاوي اللبنانية والتي أبت الا ان تكون مع عائلتها الفلسطينية في مسار الالم, وتوفيت في دمشق لاحقا اثناء الغياب…
كان والدي من المنضبطين في ان يكون مواطنا صالحا حيال السلطه الاسرائيلية الجديدة حيث تواجد مع الاوائل ممن تبقى منهم في حيفا ليكون المواطن العربي الثالث الذي يحصل على بطاقة هوية ورقمها 2 المعدة لمن هم من غير اليهود ومن ثم اصغار… وبعدها 3 اي 0003/2, لكن ذلك لم يسعفه, لانه خسر كل استحقاق الارث والاملاك التابعه لعائلته لانهم جميعا غائبون بما في ذلك بيت والدة (جدي) ديب قاسم عابدي الكائن في شارع الخياط رقم 5, مقابل عمارة الخياط والقريبة من مدخل الميناء الرئيسي بجانب ساحة بالمار –المخطط الانجليزي الذي خطط بناء الميناء في بداية سنوات الثلاثين من القرن الماضي. وبشهادة السيد سليم الخياط ابن عزيز احد واهم اثرياء حيفا فان جيرانه في المقابل واهم ضياء وابراهيم وديب وامراة جدي. كانت علاقتهم مع بعضهم ممتازه, وانه لا ينسى تلك العلاقه ابدا . البيت بني في سنوات الثلاثين وبعدها بسنوات توفي جدي بعد ان طلق جدتي زهره المختار, طرابلسية من لبنان وترك اولادها قاسم (ابي) واخيه يوسف وتزوج امراة من عائلته الغزاوية وبذلك استثنيا من الارث قبل ان تضع الدوله العبرية يدها على املاك الغائبين وتعتبر نفسها انها المالك الشرعي, وشركة عمي– دار هي من تدير املاك الدولة..!. كان والدي حريصا وامينا بحق شريكه الفلسطيني من عائلة الصرصور ان يحافظ على الخان بعد هجرته ويصبح الخان في ايدي الدوله مع اعطاء حق استغلال العقار بالمفتاحية والاستئجار المحمي الى حين.
خان الصرصور سوق الخردوات
يقع خان الصرصور بين شارعيين رئيسيين, هما شارع العراق وشارع الناصرة, بقربه غربا محطة سكة قطار الحجاز وجامع الاستقلال جنوبا وفي الدوار يقبع عمود فيصل وكذلك سور الميناء المحصن امتددا لسكة الحديد وفي القرب ايضا سيينما النصر التي بدات عرض الافلام المصريه و افلام طرازان في غابات افريقيا التي لم تتحرر بعد ان حيفا القديمه شملت حارات عدة ومنها حارة الكنائس ووادي الصليب وحارة الغزازوه ووادي روشميا الاسفل وفي مسح طبغرافي بعد هدم تلك الاحياء والتي سكنها اكثر من 25000 تبدو الان في حجمها وكأنها قسم من بارك في مدينة بودابست ليس اكثر.
كان والدي يشرف على ادارة الخان التي حوى الخيل والبغال والحمير وكذلك المتسولين الذين لا مبات لهم سوى ذلك المأوى في خان“الجيسي كنية” ابي من سنوات مضت.
ضم الخان, بالاضافه الى الكائنات التي ذكرت, ادميين…
كان قسم منهم يعمل لحساب توزيع قوالب الثلج وتنكات الكاز“النفط” بواسطة البغال والخيل في حارات حيفا العليا والسفلى وقسم اخر متسولون يأتون بخردواتهم ويبقون في الخان لحين الصباح القادم عملي في الخان كذلك البيطارالذي يحدي ارجل الخيل والبغال ويعتني باوضاعهم بعد شقاء اليوم.
خان الصرصور
من هم نزلاء الخان ؟!
1.لنبدأ بواحد منهم !
… “المندوب السامي“… كنيه أطلقها والدي بدعابه موروثه عن عمه عبد الرحمن والذي أحمل اسمه انا على مهاجر يهودي من العراق سكن الخان لفتره, كان يبدو رجلا حكيما على الرغم من شقاء دنياه, يتكلم باللهجة العراقية متجاهلا انه قدم من العراق لاجل بناء وطن لليهود فقط…!
كانت بشرته بيضاء وملامحه تبدو اوروبية لا تمت بصله لمناخات المكان, لفتره طويلة اعتقدت ان تمة قرابة تربطه برفيق الحزب من اصول عراقيه ايضا, البيرت كوجمان الذي درس موضوع المكانيك في المانيا قبلي بسنوات وما زال يعيش هناك.
ناجي…دون اسم عائله يحمله ولقب ب“كاخا” ככה.. نعم هكذا كنيته ولماذا؟…لا زلت في حيرة من أمري, الئن لغة الايديش التي سادت اجواء البلاد في سنوات الخمسين من القرن الماضي ولان مؤسسات الدوله والمجتمعات الاجتماعيه والاقتصاديه فرضتها ثقافة اخرى على سكان العرب ويهود الشرق الذين تكلموا بتلك اللهجه دون ان يربطوا بين لغه عبرية مستحدثة وتحريفها عبر لغة الايديش, اذ ان صاحب البيت وصاحب العمل اصبح “בלא בייט“او “بلابوس” كذلك الاصطلاح
الذي يرددونه حتى اليوم تجار الخرداوات والاتين من مدينة جنين وقضاها حين تجوالهم في وادي النسناس حاثين سكان الحي تبديل أو بيع الخردوات العتيقه “alte sachen altasheer” وباختصار “الالتيزاخن” ! اصطلاح فهمت معناه حين درست الالمانيه في معهد هيردير هناك.
ناجي… وكما علمت من خلال ملامحة الافريقيه انه من عائلة افريقيه قدمت الى فلسطين مع حملات ابراهيم باشا القادم من مصر لاقامة دوله ممتده من مصر الى سوريه كان يعمل “كعربجي” اي سائق عربة يجرها حصان او حمار, الاصطلاح يطلق على اكثر من مهنه وتنتهي عادة ب ال… جي…كقولك كارا – خنجي تلك التي ورثناها عن اللغه التركيه واستمرت لعقود كثيره.
لقد عمر السيد ناجي طويلا فبعد سفري للدراسه في المانيا ورجوعي, وانجاب ثلاثة بنين كنت التقيه فيه الهدار, مقابل عيادة ابن سينا مستمرا في التزامه شرب عرق غزالين بالاضافه الى الاكسترا فاين الرخيص الذي شربناه نحن فيه هيئة تحرير “الاتحاد” في احتفاليات مستمره بين الثلاثاء والجمعة مع كل اصدار عدد جديد من الصحيفة.
ابو خميس!!
في طفولتي وحين كنت في العاشره اتردد على الخان, كنت اجلب معي “القراوانا” او وجبة الغذاء التي كانت والدتي خيريه تحضرها لابي وجميع من كان معه من متسولين كأبي خميس…دون ان يكون متزوجا على الاطلاق ودون ان يكون له ولد يسمى خميس, وهذا ايضا افريقي الجذور, لون بشرته كانت في غاية “الغماق” مثل ال“تركوتا” (טרה קוטה)فخار اسود محروق… يعتقد ان جذوره تمتد الى جنوب السودان
او غربا منها, دار فور… كان يحب ان يسمى الدار فوري لكن هذا الاصطلاح لم يكن معروفا في ظل دولة السودان الموحده !! كان يستلم مني وجبات الاكل تواضعا وخجلا كما الخدم في فيلم هوليود الشهير “ذهب مع الريح” رحمه الله عليه لقد رسمت ملامحه حين كان يزورنا في بيتنا المتواضع في وادي النسناس. ان صورته مدونه في كتابي “خمسون عاما من الابداع“.
المختار!! وهو كنيه اطلقها والدي على المتسول اليهودي الاشكنازي والذي لم يسكن في الخان مع بقية (النزلاء) بل كان ياتي صباحا لتفريغ ما حمله من خردوات من اعلى الجبل, الهدار الى وادي الصليب.
كان المختار ,,ولا اعرف اسمه الحقيقي مولعا بالميدليات والنياشين الفضية والتنك التي تصدرت صدره وقبعته الباليه… كان يبدو متزينا بنياشينه وكأنه خرج من معركة في لينين او ستالينغراد في الحرب العالميه الثانية. كان المختار يزور بيتنا ايضا, في احد زياراته توسل الي برجاء أن أعطيه نيشان وزارة المواصلات التي اعطيت لتلاميذ مدرسة الاخوه في حيفا تقديرا للعمل التطوعي في الارشاد بالحفاظ على سلامة المرور انذاك ومقابل بضع قروش تنازلت عن النيشان لاجل كرامة الرجل…مختار… نعم! هكذا كان الرجل الذي حلم ان يكون شرطيا…يتكلم العربية بلكنه شكنازيه ومثل دور“البلابوس“في حياته قبل موته..
السيد مئير حزان اليهودي ابن العرب
كي لا يفهم خطا… أن اسمه حقيقي ولا يمت بصلة بزعيم حزب العمال الموحد(مبام) الاشتراكي الصهيوني مئير حزان والذي شارك رفيقه مئير يعري في قيادة الحزب وليصبح احد المنطرين في الحركه الصهيونيه ووزيرا في حكومات اسرائيل (حكومة غولدا مئير على ما اعتقد).
لا انه مئير حزان الشفاعمري اليهودي والذي انتقلت عائلته للسكن في حيفا في بداية القرن الماضي عمل مقاولا في ورش نقل الحجاره ومواد البناء بواسطة حميره التي باتت في خان الصرصور بعد عناء النقل المضني صعودا ونزولا من الهدار الى وادي الصليب كان السيد حزان يلبس لباس السفاري, قبعة سفارية من أيام أفلام طرزان الاوروبي بطل الغابه في ادغال افريقيا .
تكلم العربيه المحليه الشفاعمريه بطلاقه. لم يشارك نزلاء الخان لا في اتراحهم ولا في افراحهم ان كان لهم افراح اصلا .
هناك الكثير من شخوص الخان القابعين والمتسوليين والعابرين الذين على رغم ما حل بهم من حال,الا ان مصيرهم “التراجي/كومي” ترك في شخصيتي الناشئه والتي صقلت حين انضمام اخي طيب الذكر لصفوف الشبيبه الشيوعيه في حيفا وانضمامي انا عندما كان عمري العشرة اعوام. في العام 1956, مورست ضغوط كبيرة على والدي باخلاء العقار, بعد اقناعه بالانتقال الى مكان اخر في حي شيمن حيث يكون بامكانه ادارة خان مع ما تبقى من خيل وبغال وحمير في البلد– في ذلك الانتقال لم يبق من نزلاء الخان في سوق الخرداوات الا من لم يجد مأوى بديلا. اذكر منهم ناجي ال-“كاخا” وأبا خميس“الدار فوري” والسيد العجب صديق والدي من ايام حيفا القديمه… اما الباقون..المندوب السامي (العراقي) والمختار “الشكينازي” والسيد مئير حزان الشفاعمري فقد “تبخروا” نعم!! تبخروا في فضاء مدينة وفضاء اعمده الدخان الصاعده من مناطق الصناعه من شركة الكهرباء وتكرير البترول وكل الخليج الملوث. لم تعد حيفا كما كانت … في عام 1992 توفي والدي قاسم عن عمر ناهز ال 95, وهكذا اغلقت دائرة من حيفا التي احببتها واحبها أزلا.
-
القيت بمناسبة تكريم عائلة عابدي وخمره,ضمن القصة الحيفاوية