صحيفة هآرتس، 27 شباط/فبراير
2013بلقم جدعون ليفي
اليكم صورة طفولة: وهي صورة ولد يمسك بيد أمه ويقف إلى جانبيهما أخواته وإخوته الاربعة. والمكان: لاجئين فلسطينيين في سوريا. والسنة: 1950. فإلى هنا فرّت عائلة عابدي من بيتها في حيفا بعد ان سقطت هذه في يد الهاغاناة. وإليكم صورة اخرى أكثر تأخراً : وهي صورة أبناء العائلة جميعا الذين شاخوا منذ ذلك الحين حول أختهم لطفية، وهي عجوز تتوكأ على عكاز في نقاب ابيض. وقد صورت هذه الصورة قبل بضع سنوات في عمان في واحد من اللقاءات النادرة لأبناء العائلة التي مُزقت الحب وحدتها. آنئذ أتاحت لهم إسرائيل العودة إلى بلدهم عام 1951 (لم شمل)، لكن حُكم على لطفية ان تبقى لاجئة في مخيم اليرموك قرب دمشق مقطوعة ما بقي من عمرها عن وطنها ومدينتها ومناظر طفولتها واخوتها وأخواتها.والآن مع تصاعد الحرب الفظيعة في سورية، وقد أصبحت مخيمات اللاجئين الفلسطينية هدفاً، يخشى أبناء العائلة في حيفا على مصير أختهم العجوز. ويبدو انه لا سبيل ألبتة لانقاذها ونقلها إلى مكان آمن في بلدها.يقوم بهذا النضال أخوها عبد عابدي وهو فنان حيفاوي فلسطيني نال جوائز، وهو العزيز على مدينة حيفا.
ولم يستعمل عابدي إلى الآن أي شيء عملي لانقاذ أخته. انه يقول ان نضاله ليس شخصيا بل هو قومي لكن مصير أخته يقلقه جدا. وان حقيقة ان مواطن الدولة لا يستطيع ان ينقذ أخته التي تتعرض حياتها للخطر وان يأتي بها إلى وطنها لأنها عربية غير يهودية فقط، تثير افكارا صعبة.بعد بضعة اسابيع سيفتتح معرض لاعمال العابدي في “بيت هغيفن” في مدينته تحت عنوان “لفتة عطف على لطفية – أختي في مخيم اليرموك”. وأما المعرض الذي سيفتتح في 17 أيار/مايو 2013 فترعاه اييلت زوهر.كان عبد عابدي يدأب هذا الاسبوع ايضاً في الاستوديو الخاص به في واحد من الاعمال سيُعرض في المعرض وفي مركزه صورة ستوديو بالاسود والابيض للطفية من سنة 1967 في دمشق، ويحيط كيس خيش بالصورة. ان أكياس الخيش تؤدي دوراً هاماً في اعمال عبد عابدي: فهي تُذكره بصورتها ورائحتها لصفوف طفولته أمام أكياش اغاثة منظمة الغوث الدولية في مخيم اللاجئين في دمشق.
وكان مصير عابدي حسنا فعاش ثلاث سنوات فقط لاجئاً، أما لطفية فهي لاجئة منذ 1948 وقد اضطرت في الفترة الاخيرة ايضا إلى الفرار من بيتها في المخيم بسبب فظائع الحرب والى ان تختبيء في شقة ابنتها في دمشق. وهي تتحدث من هناك بين الفينة والاخرى بالهاتف مع أخواتها في حيفا. وقد ساءت حالتها الصحية في الفترة الاخيرة.يشير لوح حجري قديم إلى استوديو عابدي وهو بيت حجري مذهل عند أطراف بستان فاكهة مهمل في شارع يصعد إلى الكرمل. وقد نقش في اللوح الحجري عنوان قديم باللغة الالمانية: “الى حديقة الراهبة ايما”، وهو تذكير بأيام كان فيها هذا البيت يخدم راهبات المانيات وكان المبنى المجاور يُستعمل مستشفى حكوميا للبريطانيين وفيه ولدت لطفية.ان البيت الذي يقع فيه الاستوديو وهو ملك للكنيسة الانجليكانية، قد استعمل في الماضي مكاتب لاصدار الكتب العربية لـ إميل حبيبي. وكانت الطاولة في مركزه هي طاولة حبيبي. ويستعمل البيت الآن استوديو عابدي.
وهو في الواحدة والسبعين من عمره نشيط. وزوجته هنغارية (غير يهودية) واسمها يهوديت. وهما يتحدثان باللغة الالمانية، لغتهما المشتركة وهي تذكير بالايام التي كانا فيها في طالبين في درزدين في المانيا الشرقية (التي كانت شيوعية في الماضي).حينما جاءت يهوديت إلى البلاد في سنة 1971 متابعة لزوجها، وهي في الشهر التاسع من حملها، ظنها موظفو الحدود في المطار يهودية. فاسمها يهوديت واسم أبيها يوسف وحينما سألوها عن ديانتها قالت انها اصلاحية. وعرض عليها الموظفون فورا سلة استيعاب هجرة سخية وشقة في نتانيا إلى ان قالت ان زوجها يسمى عبد الرحمن عابدي. فتم تمزيق جميع المستندات التي ملأتها دفعة واحدة وأُلغيت جميع مقترحات الشقة وسلة استيعاب الهجرة وأُرسلت إلى وجهها دون أية مساعدة.درس عابدي سبع سنوات في المعهد العالي للفنون في جامعة درسدن على يد المدرسة ليئا غروندغ.
ويقع ستوديو عابدي في المنزل الذي لم يبق شيء منه. وكان شقيق جد عابدي، عبد الرحمن الحاج، يتولى رئاسة بلدية حيفا في عشرينيات القرن الماضي.في الثاني والعشرين من نيسان 1948 حينما سقطت المدينة كما يقول عابدي فر منها كل سكانها الفلسطينيين تقريبا. وهرب العابدي ابن السادسة ايضا مع أمه وأخواته وإخوته. وأصرَّ الوالد قاسم على البقاء في المدينة. ويذكر عابدي ان أباه استلقى على الارض وصاح بهم ألا يغادروا لكن الأم كانت هي الشخصية المهيمنة بسبب الطبقة الاجتماعية التي كانت أعلى والتي جاءت منها وأصرّت على الفرار.ركبت الأم وأبناؤها مدمرة بريطانية نقلتهم من ميناء حيفا إلى عكا وأبحروا من هناك في سفينة مضعضعة الاركان إلى بيروت. وكانوا على يقين من أنه سيُسمح لهم بالعودة بعد اسبوعين أو ثلاثة.
ومكثوا نحوا من شهرين في مخيم اللاجئين الكرنتينا في بيروت ونقلوا من هناك إلى مخيم اللاجئين ميه ميه قرب صيدا.وكانت لطفية التي هي البنت البكر قد تزوجت آنذاك بشاب من قرية قرب طولكرم. وأُرسلت هي وزوجها إلى مخيم لاجئين في دمشق. وفي ذات صباح حُمل الباقون جميعا تقريبا من أولاد العائلة الصغار بالقوة في حافلة كان يفترض ان تأخذهم إلى مخيم آخر في سورية أو في العراق. ولم ينقذهم سوى بكائهم وحقيقة ان أمهم لم تكن معهم في تلك اللحظة. وبعد نحو من سنة ونصف فروا هم ايضا من المخيم في صيدا إلى دمشق، إلى لطفية وزوجها. وقد سكنوا في البدء في مسجد مهجور وانتقلوا بعد ذلك إلى مخيم اللاجئين ومكثوا في دمشق أكثر من سنة.وفي سنة 1951 نجح والد العائلة في الحصول على تصاريح عودة لزوجته وأبنائه اعتمادا على لم الشمل. ومُنعت عودة لطفية لأنها كانت متزوجة. و
عاد الفتى عابدي إلى حضن أبيه والى بلده عن طريق لبنان وممر رأس الناقورة وهو هنا منذ ذلك الحين في حيفا مدينته، وبقيت لطفية متخلفة عنهم. واستمر بعد ذلك سنين طويلة إلى ان يتقابلا مرة اخرى.في سبعينيات القرن الماضي حينما استُعملت سياسة موشيه ديان “الزيارات الصيفية” جاءت لطفية في اول زيارة لها للبلاد. وكانوا حتى ذلك الحين يرسلون اليها التحيات عن طريق اذاعة صوت إسرائيل بالعربية وراسلوها بين الآن والآخر بواسطة منظمة الصليب الاحمر الدولي.وقد زارت هنا منذ ذلك الحين ثلاث مرات أو اربعا واضطرت دائما إلى العودة إلى اليرموك حيث كان قد ولد لها حتى ذلك الحين ابناؤها وبناتها الـ 11.
وبعد التوقيع على اتفاق السلام مع الاردن، التقى أبناء العائلة في عمان وسافرت أختا عابدي مرة واحدة إلى دمشق للقاء أختهما في اطار الزيارات التي نظمها عزمي بشارة في حينه. وان الصورة في الألبوم العائلي لهاتين الأختين عن جانبي لطفية يقبلان خديها تؤثر في القلب.منذ زمن غير بعيد حمل أبناء لطفية على اليو تيوب مقابلة أجروها معها عن طفولتها. يقول عابدي ان حياتها كلها قد دارت حول الشوق إلى حيفا. وقبل نحو من شهرين كتب أحد أبنائها في صفحته على الفيس بوك ان أمه قد اضطرت إلى مغادرة بيتها بعد ان قصف مخيم اليرموك قصفا شديدا ووجدت ملجأ في شقة واحدة من بناتها فرت إلى المانيا.”أغضبني هذا”، يقول عابدي في ستوديوه. “سألت نفسي: كيف يمكن ان تضطر مولودة في حيفا، ولد أبوها وجدها وجد جدها هنا ولم تتلطخ أيديهم بالدماء كما يقولون، إلى ان تجري عليها كل هذه المعاناة وان تصبح لاجئة في بلد ليس بلدها وهي الآن ايضا معرضة للخطر بسبب الحرب.“كنت أريد ان أُثير الرأي العام في “إسرائيل” لينتبه إلى وضعها ووضع كل اللاجئين الفلسطينيين. نضالي يرمي إلى اثارة صيحة كل اللاجئين.