بقلم : الدكتور سميح مسعود *
بعد أيام من تعرفي على الفنان الحيفاوي عبد عابدي ، تصفحت موقعه على الانترنت ، تنقلت عبر صفحاته ، وجدتها تشع بجاذبية تلفت النظر إلى أعمال فنية مميزة ، لوحات لونية مفعمة بمرئيات ومحسوسات جميلة ، و مجسمات و منحوتات رائعة ومدهشة ، على درجة عالية من الإتقان يشع منها عمق إبداعه الفني .
تمر الأيام وأنا دائم الإنشغال بالبحث عن الجذور ، بدون قصد تحقيق مصلحة شخصية ، وإنما لحاجة أسمى من الذات ، من أجل إيقاظ ذكريات قديمة تحفظها الذاكرة عن زمن مر وانقضى قبل النكبة الفلسطينية ، أعيد تركيبها من جديد ، وأنقشها على أوراقي في سطور طويلة مترابطة لحفظها من النسيان .
ما أكثر المرات الي تعرفت فيها على جذور جديدة لي ، مثل ذلك الجذر الممتد في أتلام مرج بن عامر الذي عرفتني عليه بالصدفة قريبتي حسناء دراوشة ، بعد كتابة مقالة لي في جريدة الإتحادالحيفاوية ، ومثل جذور أخرى تعرفت عليها بالصدفة أيضا في ديار الغربة والشتات .
اهتممت بتفاصيل تلك المصادفات غير العادية ، وتجليات أطياف أخرى متصلة بها عن الناس والأرض والتراب والوعي الأول للحياة في فلسطين ، جمعتها بين دفتي كتاب عنوانه ” البحث عن الجذور ” سوف يصدر في نهاية العام .
تابعت الكتابة في كتابي هذا دون توقف لفترة طويلة من الزمن ، نبشتُ في طيات الذاكرة عن حياتي الأولى في مسقط رأسي حيفا ، وفي قريتي برقة ، أعدت تشكيل الأماكن كما كانت من قبل ، استعدت بقوة ذاكرتي الكثير من أسماء الأصدقاء والأهل ، تنقلت معهم من حكاية الى حكاية أخرى ، ومن حدث الى حدث أخر … عادت بي الذكريات الى تفاصيل كثيرة سجلتها كلها في كتابي ، تكاثرت على صفحات متصلة صفحة تلو أخرى .
زادني البحث قوة واندفاعاً لا لتسجيل الكلام المجرد عن الماضي فحسب ، بل لرسم مرايا كثيرة متشابكة جسدت فيها حيفا ماقبل النكبة ، حاراتها وشوارعها وأزقتها ومحلاتها ، وأشجارها التي تعلو الكرمل ، أعدت فيها تشكيل بيت أهلي في شارع الناصرة ، وجيران أهلي ، واصدقاء والدي ، ومدرستي مدرسة البرج ، واساتذتي وزملائي ، ولحظات سقوط حيفا ، وبداية الهجرة القسرية في صبيحة يوم مشؤوم غطى بظلامه كل الدنيا .
بين الأسماء التي ذكرتها في كتابي من زملائي في مدرسة البرج اسم راشد الماضي ، شاءت الظروف أن أطلع قبل أيام على مقابلة قديمة أجراها معه موقع حيفا نت ، إنتابتني الدهشة عندما رأيت صورته لأول مرة بعد ما يقرب من أربعة وستين عاماً ، هي عمر النكبة الفلسطينية … قرأت تفاصيل المقابلة باهتمام زائد ، تحدث فيها عن أيام ما قبل النكبة ، أفاض في حديثه عن مدرسة البرج ، و أماكن كثيرة تترامى في حارات حيفا ومناطقها العديدة ، و تطرق أيضا الى سقوط حيفا وبدء هجرة أغلبية سكانها وبقائه فيها حتى الأن .
حاولت إحياء صورته القديمة وهو في العاشرة من عمره ، دون أن أدهش كيف تعي ذاكرتي كثيراًمنها مختلطة بصور أخرى لزملائي من طلاب مدرسة البرج قبل إغلاقها نهائيا ً قبل سقوط حيفا بشهرين .
حفظت مقابلته ضمن مخزون المعلومات المهمة في حاسوبي ، وبرقَ في خاطري ضرورة الاتصال به هاتفيا ً، ولهذا أرسلت المقابلة عبر البريد الإلكتروني الى قريبي وصديقي عبد السلام دراوشة ، الذي يعيش في بلدة اكسال القريبة من الناصرة ، بينت له رغبتي بالتواصل مع زميلي راشد الماضي … تابع قريبي الأمر كعهدي به بإهتمام كبير… تجاربي معه تنطقُ دوما بإخلاص من طرفه قلما أجده عند الأخرين .
لم ينقض ثلاثة أيام حتى إتصل بي قريبي عبر الهاتف … أخبرني بحماس واضح أنه وجد راشد الماضي ، زاره في بيته بحيفا الكائن في شارع حداد رقم 14 ، أملى علي رقم هاتفه ، وأخبرني أنه بانتظار مكالمة مني .
إتصلت به في اليوم التالي ، قلت له بعد تبادل كلمات المجاملة المعتادة :
“ أشكر موقع حيفا نت ، لأن مقابلته التي أجراها معك دلتني عليك …تواصلي معك الأن صعب الحدوث ، يدل على شئ غير عادي … لهذا التواصل أثره الكبير في نفسي ، أشعر أن أيام مدرسة البرج القديمة تحيا من جديد .”
تأثرت كثيراً حين قال لي :
” أتذكرك … أتذكر أنني كنت أجلس ذات يوم في ساحة المدرسة ، وجئتني تقول لي بابتسامة ودودة ، هل تريد أي مساعدة في الدراسة ، إنني على استعداد لمساعدتك ، هكذا قلت لي “
تفاجأت لما قاله ، استحوذت عليَ عبارته ، شدتني ، أيقظت في داخلي كل الشوق الى خبايا مرحلة الطفولة في حيفا .
حديث طويل جرى بيني وبينه ، تحدثنا طويلاًعن حياتنا الماضية وما رافقها من قصص وحكايات كثيرة ، دامت فترة المكالمة الهاتفية أكثر من ساعتين ، تدفقت الذكريات ، اندفعت قوة الحياة القديمة منها ، اجتاحت في هديرها كل الأماكن المعروفة في حيفا : مسبح العزيزية ، ومسبح نصور ، وحي الالمانية ، ودرج عجلون على مقربة من مدرسة البرج ، سرت معه عبر أحاديثنا في خط مستقيم من وادي النسناس الى ساحة الحناطير ، وسوق الشوام ، وجامع الاستقلال ، وجامع الجرينة ، وتوافق حديثي مع حديثه عن حارة الكنائس و وادي الصليب ، وتنقلنا معاً في شارع ستانتون واللنبي وشارع الملوك وشارع الخيام وشارع حسن شكري القريب من مدرسة البرج وعدة شوارع أخرى غيرها .
تذكرنا أسماء محلات كثيرة من أيامنا الماضية ، مثل بقالة نعيم العسل التي كانت في زاوية بالقرب من حارة الكنائس ، وفندق الملك غازي بين شارع الملوك وحارة الكنائس ، ومكتب العلمين للتكسيات في شارع الملوك ، ومحطة سكة الحديد الرئيسيه ، ومحل بوظة المر في شارع الخوري في وادي النسناس ، وبقالة الحاج فؤاد تنكي في إحدى زوايا ساحة الجرينة ، ومقهى الأزاز ، ومقهى الزهر، وفول وحمص سعيد ، ودكان سويدان ، ومطعم العبد ، وكلها كانت في ساحة الحناطير .
تحدثنا عن بحر حيفا ورذاذ أمواجه ، تلمس قلبي عذوبة الأمسيات الصيفية القديمة ورحابة حياتنا
الماضية واتساعها … وتذكرنا تفاصيل الأيام المخيفة قبل سقوط حيفا ، تابعنا خفايا صور كثيرة لسقوطها … تجمُع الناس في الميناء ، وبدء الرحيل الى منافي الشتات البعيدة .
هكذا اتسع حديثي مع راشد الماضي واشتمل على أموركثيرة لم ننساها بمرور الأيام … هذه هي الجذور التي ابحث عنها … ويهمني تسجيلها وحفظها ، قبل أن تختفي وتتوارى في طيات النسيان .
اتفقنا في نهاية المكالمة على اللقاء قريبا في حيفا ، وحددنا مكان اللقاء في مدرستنا القديمة ، مدرسة البرج ، في شارع البرج ، التي ما زالت حتى الأن تنتظر طلابها .
في اليوم التالي ، تلقيت مكالمة هاتفية من صديقي صخر الخطيب ومقر إقامته بإحدى ضواحي نابلس ، أبلغني أن ضيفاً معه من حيفا هو صديقه الفنان المعروف عبد عابدي ، كان قد حدثني عنه من قبل ، وأراد منذ فترة طويلة أن يعرفني عليه لاهتمامي الدائم بالتعرف على أهل حيفا ، كانت مناسبة رائعة للتعرف على الفنان الحيفاوي ، تحدثت معه عبر الهاتف ، عرفني على موقعه ، وزودني برقم هاتفه وعنوانه ، وكانت المفاجأة أن بيته يحمل رقم 13 في شارع حداد ، أي أن جاره الأقرب هو راشد الماضي السابق ذكره ، حدثته عن علاقتي بجاره وأسعده ذلك … اتفقنا على اللقاء قريبا في حيفا ، ووعدني أن نلتقي معا مع جاره راشد الماضي ، وأن يعرفني على أصدقاء له من أهل قريتي برقة من أل الظاهر وال نصر الله الذين ما زالوا يعيشون في حيفا ، منهم رائد نصر الله مديرمسرح بيت الكرمة ، وسهيل أسعد وموسى الظاهر .
جذور جديدة واضحة ومنظورة يربطني بها بحر حيفا .
بعد أيام من تعرفي على الفنان الحيفاوي عبد عابدي ، تصفحت موقعه على الانترنت ، تنقلت عبر صفحاته ، وجدتها تشع بجاذبية تلفت النظر إلى أعمال فنية مميزة ، لوحات لونية مفعمة بمرئيات ومحسوسات جميلة ، و مجسمات و منحوتات رائعة ومدهشة ، على درجة عالية من الإتقان يشع منها عمق إبداعه الفني .
ثمة ومضات ساطعة تضئ أعمال فنية وطنية له تمس شغاف القلب ، لا تهتم بمدينته حيفا فقط بل بالقضية الفلسطينية بكل تفاصيلها ، منها نصب تذكاري لإحياء يوم الأرض في سخنين ، ونصب تذكاري لشهداء قرية كفر كنا ، ونصب تذكاري لشهداء شفا عمرو ، ومنها لوحات قصص النكبة وما نسينا ، ولوحة تحية الى حيفا ، و لوحة باسم ” ساعة سقوط حيفا ” تحمل التاريخ 22-4-1948 ، اللوحة الثانية التي يضعها لذكرى سقوط حيفا وهي كما عرفها في موقعه “عبارة عن ساعة قديمة لا تقرع أصواتها ، كما الحال في ذلك اليوم المشؤوم من حياة الفلسطينيين في حيفا ، بقيت عقاربها كما هي ولم تواصل العمل .”
يكفي هذا ليكون هذا الفنان الكبير واحدا ً من جذور حيفا وكل فلسطين ، سألتقي به قريبا ً مع راشد الماضي ، لنخوض معا ً اللجة بعد اللجة باحثين عن خفايا مدينتنا الأثيرة بكل ما كان فيها في تلك الحقبة الزمنية من سني أيامنا الباكرة .
*
كاتب وشاعر فلسطيني مقيم في مونتريال – كندا
لمار للإعلام
01 كانون2 2013