غادة أسعد
لا يتوقف شريط الذكريات عن اعتصار آلامنا وجراحنا، نحنُ الفلسطينيين في كل بقاع الأرض، وفي كلِ يومٍ جديد تتسعُ مساحة الجراح، لتمتد إلى جميع شرايينا لتوجعنا مِن جديد، تذكرنا بحجمِ مأساتنا كفلسطينيين. لكننا في شهر أيارٍ من كل عام، وتحديدًا في الخامس عشر منه، تسكُننا قصصُ التهجير من جديد، تعود لتخطُر على بالِ مَن عايش النكبة، هِي ذكرى تحمِلُ تفاصيل دقيقة لشعبٍ كان يملكُ كُل شيءٍ، وفي لمحةِ بصر ودون أن يستوعِب ما يحصل له، أضاعَ كُلَ شيءٍ، أرضه، أبناءه، بيته، مفتاح غرفته، وصارَ يبعُدُ عن هواءِ فلسطين آلاف الأميال وأكثر، لكن في رئتيه وفي قلبه لا تزالُ فلسطين تسكُنّ أينما سَكَن
.
وفي الوقتِ الذي أصبحَ الشباب الفلسطيني يقودُ معركة البقاءِ والانتماء ويُشارك بهمةٍ وعزيمة في مسيرات العودة، وتظاهرات إحياء النكبة، لا يزالُ الكبارُ مِن الفلسطينيين، يحاولون استيعاب ما جرى في نكبة العام 1948، وها هُم يحكون قصصهم، وفيها مِن الجراحِ ما يكوي القلبِ ويُدمي العين، هي شهاداتٌ حيّة لفلسطينيين سطروا في ذاكرتهم تفاصيل لا تغيبُ عن الوجدان. جديرٌ بالذكر أنّ الشهادات النسائية لكلٍ مِن السيدات: زهرة خمرة ونائلة نقارة أبو منّة وسهام منسّى تمّ سردها خلال أمسية دعا إليها مركز مدى الكرمل- المركز العربي للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة في حيفا، ضمن برنامج الدراسات النسوية، وقد جاءت الندوة تحت عنوان “ما بين حيفا وعكا: شهادات حيّة لنساء عشن النكبة”، والتي أقيمت الأربعاء الماضي، الخامس عشر من آيار، في فضاء “الورشة –مساحة فنية”، حيفا بمشاركة بروفسور نادرة شلهوب-كيفوركيان- مديرة برنامج الدراسات النسوية- مدى، ميساء ارشيد (محامية، ناشطة وطالبة لقب ثاني في الدراسات الجندرية)، سوار عواد (طالبة إخراج ومسرح-جامعة حيفا) وماريا زهران (طالبة حقوق متدربة في مركز عدالة)، وأدارت الندوة: د. سهاد ظاهر ناشف- منسقة برنامج الدراسات النسوية- مدى.
حيفا.. عروسُ البحر
المكان: حيفا، الشاهدة: زهرة خمرة (ام ماهر)
هي زهرة عابدي- خمرة (أم ماهر)، والدها: قاسم عابدي، وزوجها سليم خمرة، وهي ابنة لعائلة حيفاوية، ووالدتها من عائلة الحاج، عمّها هو عبد الرحمن الحاج رئيس بلدية حيفا قبل النكبة. وهي شقيقة الفنان التشكيلي عبد عابدي، والمرحوم ديب عابدي، ولها شقيقتان احداهما تقيم في أم الفحم والأخرى مغتربة في مخيم اليرموك في سوريا، تدعى لطفية، وكانت تقيم مع زوجها في عتيل قضاء نابلس. تتحدث عن اندلاع الحرب في العام 1948 فتقول:
“في قلبي ذكريات مؤلمة، عن فلسطينيين قُتلوا أمام عيني، وأنا طفلة يافعة، وقد رأيتُ انسكاب دمائهم على جدار في حيينا في حارة الكنائس، أيامها لم استطع استيعاب هول الصدمة. وقد تأثرت والدتي – رحمها الله – بالأحداث والمناوشات الشديدة بين العرب واليهود، فاختارت أن نهرب إلى بيت خالها في ساحة الحناطير، المهجور، بعد أن تركه أصحابه وهربوا إلى لبنان، وحين بدأ اليهود بالاقتراب أكثر، تركنا البيت وهربنا إلى عكا، لكنّ والدي ظلّ في بيت العائلة، لكنّ الخوف جعل والدتي تختار الانتقال إلى لبنان، بالسفينة، حيثُ رست السفينة في ميناء بيروت، وقد أقمنا في مخيم المية ومية، ومن هناك انتقلنا إلى أكثر من مكان، وتلقينا مساعدات غذائية من وكالة اللاجئين “الأونروا”، بينما انتقلت شقيقتي (لطفية) مع زوجها إلى سوريا واستقروا هناك، ومن لبنان إلى الشام زحفنا، انتقلنا لنجاور شقيقتي لطفية، انا وامي وأشقائي، وقد حصلنا على بطاقات هوية، وبعد عامٍ ابرق لنا الوالد كي نعود إلى حيفانا وبصعوبةٍ أيضًا، كان لنا أن نعود إلى بيتنا، لكنّ الجد وسائر الأقارب آثروا البقاء في سوريا”.
وتصف نكبة العام 1948 فتقول: “لا يُمكنني أن أنسى العام 1948، كُنا نعتقد أننا سنعود إلى بيتنا، وكبارُنا يحملون المفاتيح، وأمضينا سنتين في الغربة، مهجرين، بالكاد نلملمُ مؤنتنا ونبكي جراحنا، بيوتٌ في لبنان ليست بيوتا، ومِن مكانٍ إلى مكانٍ نحملُ الأغراض ووجع القلب ونسيرُ باكين، ذكرياتنا مع شقيقتي لطفية، التي صرنا نلتقيها في الأردن”. وكان أجملُ لقاءٍ لنا بِها قبل أكثر من 10 سنوات، حيثُ سمح لنا بزيارة سوريا ولقاء الأحبة”.
حيفا في عيون زهرة عابدي خمرة:”كان عدد سكان حيفا العرب في العام 1947 يبلغ حوالي 70 ألف عربي، ولم يبقَ في تشرين الثاني من العام 48، سوى أقل من ثلاثة آلاف وثلاثمائة نسمة، أما اليوم فعدد السكان العرب وصل إلى 35 ألفًا، من مجموع السكان الذي وصل إلى أكثر من 270 ألف نسمة،علمًا أنّ عامل الزيادة لا يعتمد فقط على التكاثر الطبيعي، بل إنّ الهجرة الداخلية إلى حيفا، زادت هذا العدد بصورة ملحوظة، وحيفا اليوم حضنُ الفلسطينيين وأجملُ المدن في نظري، هي عروسُ البحر، وهواءها يردُ الروح ويشفي جرح العليل، ولا يكتملُ جمالُ المدينة إلا بعودة إهلها إليها، مهما طالُ الدهرُ أو قَصُر”.
{flike}
.