سميح القاسم
لا استطيع التعامل مع البوم الفنان التشكيلي عبد عابدي من زاوية تقنيه وبمنظور مهني حرفي فحسب. فالعمق الزمني التاريخي لتجربه عبد عابدي في فن الرسم يدخله في دائرة الفنان – الظاهرة, وبحكم التراكمية المعرفية والروحية , وتداخل التجارب وتفاعلها, فاٍنه يصبح من حق عبد عابدي عليٌ أن أتجاوز أدوات النقد الفني المألوفة والمتعارف عليها, إلى استحضار حالة الانسجام في الفكر والممارسة, ووضع المعايشة ألفنيه والنضالية في نسيج الرؤية وتحليل الرؤيا, إزاء أعمال عبد عابدي على امتداد أكثر من خمسين عاما في الإبداع والكفاح ,عبر مسيرة الالتزام الفني والمعاناة الروحية الحاشدة بالمشقات والتحديات.
منذ بداية الطريق , لفتت نظري ريشة عبد عابدي , بما اقترحته من استثنائية مميزه , ويوم طلبت منه لوحه لغلاف مجموعتي الشعرية الثانية أغاني الدروب في العام 1964 , فقد لبى الطلب بحماس وبمحبه لأنه أحسن وأدرك مدى الانسجام الإبداعي بين ريشته المغموسة في الوجع القومي والوطني والإنساني للشعب العربي الفلسطيني ,وبين ألقصيده المفعمة بهذا الوجع, وجاءت لوحته تعبيرا قويا وعميقا وجميلا عن الهاجس الشعري المتوهج في قصائد تلك المرحلة.
عملنا معا في صحيفة الاتحاد وفي مجلة الجديد ومجلة الغد وسرنا جنباً إلى جنب في المسيرات والتظاهرات , وتعرضنا معاً للقمع والاضطهاد, وتعمق لدينا شعور التكافل الفكري والوجداني والإبداعي, بحيث بدا دائما أن لوحته تسند ألقصيده , بمثل ما تسند ألقصيده اللوحة.
ومنذ البدايات تداخلت في الوعي مقاربات وتداخلات بين أعمال عبد عابدي وإسماعيل شموط وغر شون كنيسبل وأعمال فنان الجداريات المدهش سيكيروس, وكان ذالك امرأ طبيعيا فكلهم فرسان في سريه الإبداع الملتزم الذي لا يكتفي بالقيمة الجمالية ولا يقف عند حدودها , بل يتجاوزها لتقديم ما هو جميل ومجدٍ في الوقت نفسه, ولعلها فرصه أخرى للتذكير هنا بأن هناك من حاولوا تشويه معنى الالتزام وجوهره, بادعائهم انه يشكل تبعية فنيه لحزب أو لحكومة أو لمؤسسه ,أو لسياسة , وهؤلاء هم الذين يصدرون عن موقف سياسي رخو ومائع وتابع , إما الالتزام الإبداعي فهو موقف إرادي اختياري تطوعي ناشئ عن إحساس عميق وحيٌ بوحدة الشعب ووحدة الإنسان ووحدة الكون وجدلية الواقع والحياة والتطور, ومن هنا فلا يمكن إلا أن يكون المبدع الملتزم أكثر رقيا وأجمل وجدانا وأنبل غاية من “المبدع” السائب والمأجور والعميل والانتهازي والدجٌال.
مرٌت تجربة الفنان عبد عابدي في ثلاث مراحل أساسية, حتى ألان. كانت في البداية مرحله الواقعية الاشتراكية ألصلبه والحادة, ثم دخل الفنان عبد عابدي حالة الترميز والتريث مع مكابدات الفنان الفرد والفنان المنتمي في آن, أما المرحلة الثالثة الراهنة فهي مرحلة المغامرة والتجريب الفني واقتحام مجالات وآفاق إبداعية أكثر إلحاحا اليوم, بحكم تراكمات الحياة والخلاصات والعبر, والجموح الفني اللجوج نحو اكتشافات جديدة وتكوينات مستحدثة.
لاحظت في أعمال عبد عابدي من ستينات القرن الماضي تشبثا قوياً بالأسود والأبيض, وبدافع الإعجاب بتجربته ومن منطلق الصداقة والرفاقية فقد حثثته على اقتحام الألوان, وكأنما كنا نتقاسم أفكارا مشتركة, فلم يمضى طويل الوقت حتى فرش عبد عابدي في مرسمه ألوان قوس قزح, ولم يحدث ذالك في اندفاعه غير محسوبة, بل جاء تعامله مع الألوان مدروساً ومتدرجاً وفق معطيات التجربة ومتطلبات الإبداع.
سيسعدني جداً صدور البوم عبد عابدي, الجديد والكبير, والى أن يتحقق لنا ذالك, فسأواصل الاستمتاع بأعماله المعروضة على جدران بيتي, فعبد عابدي واحد من أفراد الأسرة, ولا غرابة في أن تكون أعماله جزءاً من البيت.