“إنّ الإبداع عطاء الفرد، والتّطوّر عطاء الجماعة. إنّ الأفكار الكُبرى في التّاريخ عطاء أفراد، وتغيير المجتمع عطاء جماعة، قبل الثّورة الفرنسيّة كان فولتير شخصًا، وروسّو شخصًا، وغيرهم أشخاص أبدعوا أفكارًا. إنّه فكر أفراد. وتظلّ الأفكار كذلك إلى أن تتبنّاها الجماعة، تصبح ثورة: أي تطويرًا. عندما يظلّ فولتير فولتيرًا يكون فردًا مفكّرًا. عندما تصبح الجماعة فولتيريّة، يكون التّطوّر”. هذا ما قاله الشّيخ عبد الله العلايلي (مفكّر لبناني وإسلامي كبير، عالم في الفقه واللغة، مناضل في سبيل التّحرّر والتّقدّم الاجتماعي) لجريدة “النّهار” اللبنانيّة بتاريخ 4/6/1992 واقتبسه الكاتب الشّيوعي محمّد دكروب في كتابه “وجوه .. لا تموت” (ص70).
وإذا أخذتني هذه المقولة لأكتب عن فنّان من بلدي فإنّني سأكتب عن ابن حارتي ابن وادي النّسناس، وعن جاري العزيز القريب، مع أنّه وُلِد في حيّ وادي الصّليب، حيث تُطلّ شرفة بيتنا على نوافذ بيته مباشرة، عدا عن الصّداقة الوطيدة والرّباط الأحمر غير المنفصل بين عائلته وعائلتي، إنّه الفنّان عبد الرحمن قاسم عابدي.
إنّ إبداع الفنّان عبد عابدي هو عطاءُ فردٍ ناشطٍ بين جماهير شعبه العربي الفلسطيني يحسّ ويجسّ نبضه، فريدٍ في أدائه ورسمه ونحته وتعليمه، عارفٍ كيف يُخلّد مأساة شعبه في الذّاكرة الفرديّة والجماعيّة وكيف يُجسّد الأمل بالنّصر من خلال رؤيا طريقه الثّوريّ لحتميّة التّاريخ والعدالة الاجتماعيّة والتي أكسبته رؤية واضحة للأمور وتقييم لما حدث ولما سيحدث مستقبلاً. وبهذا جاء عطاء الفرد ليصوِّرَ لنا بريشته عطاء الجماعة، التّطوّر، وتضحياتها، يوم الأرض ويوم المسكن ومجزرة كفر قاسم، وبالتّالي فإنّ فنّ وإبداع الرفيق عبد لم يكن إنتاج فرد فحسب بل هو إنتاجٌ لأحاسيسه من وحي شعبه وحزبه
إذا تابعنا مراحل حياة فنّاننا ورفيقنا عبد عابدي لوجدناها صورة مُصغّرة تجسّد حياة شعبنا بكل مراحل مآسيه، بدءًا بنكبة شعبنا، فقد كان عمره حينها ستة أعوام حيث كان نزح في عام النّكبة عن حيفا مع عائلته على ظهر سفينة إلى عكّا ومنها إلى ميناء بيروت (المخيّم الانتقالي الكرنتينا) ومخيّم “الميّة وميّة” في الجنوب اللبناني ومنها إلى مخيّم “اليرموك” في ضواحي دمشق، وظلّ والده هنا يُدبّر أوراق عودتهم ولمّ شملهم إلى وطنهم، مسقط رأسهم حيفا، حيث أنّهم عادوا في العام ألف وتسعمائة وواحد وخمسين إلى حيفا، لكن الشّمل لم يُلمّ تمامًا حيث أنّ أختهم البكر لُطفيَّة، بقيت في مخيّم “اليرموك”، إلى يومنا هذا.
رسم الفنّان عبد عابدي من ذاكرته ومخيّلته ما رآه في ذلك العام المشؤوم، صورة لوجه والده قاسم عابدي (أبو الدّيب) حيث يُبيّن لنا عيني والده الحزينتين الدّامعتين اللتين رأتا المأساة والمؤامرة والنّزوح، وكذلك تجاعيد وشقوق وجهه التي تجسّد الأسى والألم والحزن والشّوق القاهر لعودة عائلته وباقي اللاجئين إلى وطنهم حيث رسم في خلفيّة وجه والده الجماهير الغفيرة، آلاف النّساء والأطفال وقد تجمّعوا بين أنقاض الهدم والرّدم لمباني المدينة ويتركون مسقط رأسهم حيفا زاحفين، زرافات زرافات، نحو الميناء، باتّجاه بوّابة الميناء الرّئيسيّة، ليجدوا الملاذ الوحيد والخلاص من الخوف والإرهاب الذي رسمه الاحتلال وخطّط له لكي تبقى البلاد دون شعبٍ، فلو كُنّا أقوى من الخوف والتّخويف وأفطن في كشف المؤامرات وأكثر لُحمةً لما ضاع وطن التين والزّيتون والبرتقال.
يرتبط اسم رفيقنا عبد عابدي بيوم الأرض الخالد، برباط متين، حيث قام وزميله النحّات غرشون كنيسبل بإقامة نصب تذكاري في مقبرة سخنين إحياءً لشهداء يوم الأرض الخالد الستّة، الذين سقطوا عام ألف وتسعمائة وستة وسبعين دفاعًا عن الأرض وضدّ مصادرة الأراضي وتهويد الجليل، في نصب مكعّب الشّكل. فقد كتبا أسماء الشّهداء الستّة في المربّع الأوّل خير ياسين، عرّابة البطّوف، خديجة شواهنة، سخنين، رجا أبو ريّا، سخنين، خضر خلايلة، سخنين، محسن طه، كفر كنّا، رأفت زهيري، نور شمس، تحت شعار “استشهدوا لنحيا..فهم أحياء شهداء يوم الدّفاع عن الأرض 30 آذار 1976”. وفي الثّاني كُتب “المجد والخلود لشهداء يوم الأرض 30.3.1976” وكُتب كذلك بثلاث لغات العربيّة والعبريّة والانجليزيّة “صمّمه عبد عابدي وغرشون كنيسبل تعميقًا للتّفاهم بين الشّعبين”. وفي مربع آخر من المكعّب صُوِّرت امرأتان ثاكلتان تغطيان وجهيهما بأيديهما وهما راكعتان، وفي المربّع الثّالث فلاحان يجمعان الحصاد وثالث يحمل سلّة الحصاد.
ومربّع رابع يصوّر جُثّتين، شهيدتين على الأرض ومن أجل الأرض، وقد لحق النّصب المكعّب التّذكاري، محراث منفصل!
ويقول عبد عابدي: “وقد يكون هذا النّصب الذي أقمناه في سخنين هو الشّهادة والقَسَم في الانتماء الأبدي لهذه الأرض التي استصرخت أبناءها للدّفاع عن امّهم الأرض”. وفي إيمانه العميق بالنّضال المشترك العربي اليهودي يقول الفنّان عبد عابدي: “وقد يكون عملنا المشترك، غرشون كنيسبل وأنا، تجسيمًا لفكرة التّعاون الخلاق بين أبناء الشّعبين من أجل أن لا تتكرّر المأساة وأن يكون عمل الحاضر، هذا الحاضر الذي نتمنّى يسلم المستقبل أنصابًا للسّلام ولتواجدنا المشترك على هذه الأرض” (يوم الأرض تاريخ ونضال ونصب تذكاري، مركز مساواة، ص95).
وتتتالى أعماله أيضًا في كلّ سنة بملصقات لتخليد يوم الأرض تحت شعار “هنا باقون” سنة 1980، 30 آذار يوم بطولة وكفاح، الدّفاع عن الأرض لأجل البقاء والمستقبل، سنة 1986، وكلاهما من إصدار “اللجنة القُطريّة للدّفاع عن الأراضي العربيّة”.
كذلك ساهم في إقامة عدّة نصب تذكاريّة في البلاد (شفاعمرو، كفركنّا، كفرمندا وغيرها) وفي الخارج أيضًا ( المتحف البريطاني، لندن).
واكب الرّفيق عبد عابدي صحيفة الاتحاد والجديد كمصمم ومخرج فنّي منذ تخرّجه من جامعة درسدن في جمهوريّة المانيا الديموقراطيّة، في العام 1971، بعد أن حصل على منحة دراسيّة من الحزب الشّيوعي عام 1964، وكذلك نرى بصماته على العديد من الكتب الأدبيّة والتّاريخية لعدد كبير من كتّاب بلادنا المشهورين، والذي زاد النصّ جمالاً ورونقًا وتعبيرًا
محطّة أخرى بودّي أن أتوقّف عندها هو مرسم عبد عابدي أو مدرسة عبد عابدي للفنون الجميلة في طلعة شارع الجبل، والذي يقع ما بين كنيسة الرّوم الأرثوذكس الجديدة وكنيسة مار لوقا القديمة، حيث كان هناك، قبل النّكبة، المستشفى الانجليزي، والذي وُلِد فيه عمّي بطرس، أبو ربيع، الذي يسكن اليوم في استراليا، وهو صديق رسّامنا ورفيقه.
هذا المرسم هو مدرسة الجيل الصّاعد والنّاشئ حيث يقوم الفنّان عبد بتعليم الرّسم والجمال والنّحت والحسّ الوطني والتّرتيب والانضباط والنظافة والفنّ. وكذلك وبطريقة فذّة يحاول إشراك أهل هذا الجيل وحثّهم على حبّ الفنّ بأشكاله المُتعدّدة، لتكوّن حلقة متينة للتّواصل مع الفنّ.
وكذلك يقوم من خلال نشاطه التّدريسي بتعريف الجيل النّاشئ على فنون الشّعوب الأخرى حيث نظّم لهم في السّنة المنصرمة دورة للرّسم في جمهورية ألمانيا.
“فالفن هو خندق الشعوب الأخير. خندق الدفاع عن مُثل الحريّة والسّلام والدّيمقراطيّة والتّعدديّة، فلندافع عن هذا الخندق. وما دمنا نصون الثّقافة ونحمي الإبداع، فهذا دليل حيّ على أننا شعب حيّ”( من كلمة الشّاعر الكبير سميح القاسم في افتتاح “المهرجان الدولي الثّاني للتّمثيل الصّامت” في مدينة شفاعمرو، قبل عدّة أعوام).
لقد رسم الفنّان عبد عابدي بالفحم فكان فحمه رصاصًا في عنق الحقيقة المُزيَّفة التي يحاولون سردها وتعليمها لجيلنا الصّاعد والمُزَيِّفة لتاريخنا النّاصع الشّريف والعزيز، فالحقيقة واحدة لا جدال فيها “يا أبيض، يا أسود”. وكذلك نَحَتَ الصّخر بأزميله ومطرقته مُفَتِّشًا وباحِثًا عن الحقيقة التي يجدها دائمًا ويُظهِرُها واضحة ويُخرجها للنّاس لتحارب كَذِب الآخرين وتلفيقهم لمسيرتنا.
وأتمنّى للفنّان عبد عابدي ولأفراد عائلته الكريمة المزيد من الصّحّة والعافية والعطاء الدّائم المُثمِر لينهض بفنّه عاليًا ما استطاع، لتصل كلمتنا وصوتنا وهدفنا إلى العالم، بأنّنا شعب يُحبّ الحياة ويحبّ الآخر مهما كانت قوميَّته ويطلب العيش بسلام ووئام واحترام وأمان وطمأنينة. ولهذا يكتب لنا الفنّان عبد عابدي، من خلال إبداعه، رواية وجودنا على هذه الأرض التي ليس لنا سواها ويُشدِّد على حقِّنا فيها ليزيد روايتنا قوّة وصلابة ومتانة وثباتًا، وأنّنا، شعب، أصحاب حقٍّ ولنا في هذه وعليها حقّ الوجود. ورواية وجودنا وحقّنا في هذا الوطن تطالبنا بأن نكتبها أو نرسمها أو نصوّرها حفاظًا على تاريخنا من النّسيان والسّرقة والعبثيّة والتّسويف، وهذا ما يعمله عبد عابدي ليُظهر تلك البديهيّة، روايتنا، ويكشف ذلك الحقّ، حقّنا، الضّائع ما بين وادي الصّليب ووادي النّسناس.
.