بقلم: د.سميح مسعود الجمعة 6 كانون الثاني (يناير) 2017
تعرفت مبكرًا من خلال بحثي عن الجذور الحيفاوية بأن علاقة صداقة جمعت والدي مع سعيد بدوان في حيفا قبل النكبة، وأن أمي تعرفت من خلال هذه العلاقة على زوجته لطفية عابدي وأختها زهرة، شقيقتَي صديقي الفنان عبد عابدي، والثانية أم صديقي الكاتب ماجد خمرة، وعلمت منهما بأن عائلة سعيد بدوان قذفت بها النكبة إلى سوريا، وأصبحت عائلة كبيرة بعد زواج الأبناء وقدوم الأحفاد، وقد أقامت في بداية اللجوء تحت سقف مسجد الصابونية المهجور بحي الشاغور الدمشقي، ومن ثم في مخيم اليرموك عند تأسيسه عام 1954، وتحديدًا في حارة الفدائية إحدى أهم حارات مخيم اليرموك في جنوب دمشق، وأن لطفية في التسعين من عمرها، صامدة حتى اليوم مثل أشجار السنديان لا تهزها شدائد النكبات المتواصلة، ولا تداعيات المحنة الكبيرة التي عصفت في مخيم اليرموك وأثرت على فلسطينيي سوريا في ظل الأزمة السورية الحالية.
علمت من أصدقائي في حيفا، بأن عائلة بدوان قد هُجرت من بيتها في مخيم اليرموك، بعد أن تعرضت للخطر بسبب الحرب الأهلية الدائرة في سوريا منذ خمس سنوات، وقد أحزنني ما ألم بالمخيم من دمار، وما تعرض له سكانه من أزمة إنسانية قل مثيلها، أعطت حياتهم في الشتات بعدًا جديدًا من النفي والغربة والشقاء، وقد تماهى عبد عابدي كفنان مع مأساة شقيقته الكبرى، التي أقامت في مخيم اليرموك منذ تأسيسه في بداية الخمسينات، فرسم لها لوحات فنية، وأقام لها معارض تناقلت أخبارها الصحف، منها معرض بعنوان “لفتة عطف على لطفية أختي في مخيم اليرموك” وهكذا تردد اسمها في كثير من الصور والمعاني، ظهرت كأيقونة في فضاء مسكون بالرحيل، وظروف استلاب اجتماعي وسياسي وأغلال جديدة وصعوبات حياتية متراكبة.
كانت أخته لطفية أثيرة الحضور في أعماله الفنية، جسدها بملامح واضحة، منها لوحة اشتهرت في المواقع، وتناقلتها وسائل الإعلام، نقل من خلالها اسم شقيقته إلى فضاء واسع من الدلالات، شكل اللوحة في تكوينات فنية متميّزة، تعلوها صورة شخصية لشقيقته بالأبيض والأسود داخل حيز طولي من القماش الأبيض، وفي أعلى اللوحة سجل كلمة UNRWA بالإنجليزية “وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” التي تعبر ضمن بعد زماني مكاني مطلق السعة، عن أيام اللجوء الفلسطيني المتعاقبة في منافي الشتات، ومن تكوينات اللوحة أيضا قطعة قماش خيش تنساب طوليًا بارتباطات دالة على أكياس خيش الأونروا وقساوة التهجير والنفي.
أدخل عبد عابدي مخيم اليرموك في المشهد الفني الفلسطيني من أوسع أبوابه، عبر برؤية بصرية إبداعية ونهج متميزعن الحرب والتهجير الجماعي لسكان المخيم، من أهالي حيفا وصفد وعكا ويافا واللد والرملة وطبريا وعشرات القرى والمدن الفلسطينية الأخرى، سجل بمؤثرات نفسية فعالة ملامح كارثة إنسانية معجونة بالألم والدمار والموت،… كثّف المخيم بصريًا بتوثيق مرئي وأركان تشكيلية، تؤكد على تعقيدات نكبة جديدة تلاحق الفلسطيني في منافي الشتات، من تبعاتها آلاف الشهداء إضافة إلى المشوهين والمفقودين، ولجوء عدد كبير من سكان مخيم اليرموك مرة أخرى إلى بلدان أجنبية وعربية هربًا من الحرب.
تأثرت أشد التأثر بما قام به عبد عابدي تجاه شقيقته الكبرى أم العبد، وتمنيت لو أستطيع تقديم أية مساعدة لأسرة شقيقته التي ارتبطت في زمن مضى بصداقة قديمة مع أسرتي… أضاءت ذاكرتي بعض صور تلك الأيام القديمة، واجتاحني إحساس على إيقاعها بضرورة التواصل مع هذه الأسرة، لإيقاظ الماضي وخلق صلة واسعة مع جذور حيفاوية طيبة غائرة في عمق الزمن، لكنه للأسف لم تسعفني ظروف الحرب القاسية من تحقيق ما أصبو إليه، يصعب مد خيوط التواصل في أوقات الحرب، تضيع العناوين والوجوه وتصادر الحياة بكل تفاصيلها العادية.
***
ويمضي وقت، ثم أتعرف ذات يوم على علي بدوان، ابن سعيد بدوان صديق والدي من أيام حيفا، وابن أخت صديقي الفنان عبد عابدي، وشاء حظي أن أتعرف عليه من خلال الفيس بوك، تابعت أخباره ومقالاته التي ينشرها في بعض الصحف العربية، جذبني أسلوبه التحليلي وعمق أفكاره، وتميز مداخلاته عن مأساة مخيم اليرموك، بتفاصيل مشحونة بمعلومات وأحداث مفصلية كثيرة، تكشف عن سلسلة من التحولات والتغيرات التي لحقت بالمخيم، وحولته إلى مكان أشباح يعمُه الخراب والدمار والرماد، يُعبر عن فداحة الظلم الذي أصاب اللاجئين الفلسطينيين في نكبتهم الجديدة.
واظبت على قراءة مقالات ومداخلات علي بدوان والتعليق عليها في الفيس بوك، ولفت نظري بشكل خاص مقالاته عن أمه ومرضها ودمار بيتها، وذكريات صفو طفولته وصباه في حارة الفدائية، المربع الأول في مخيم اليرموك، استهواني ما كتبه بتعبير عاطفي عن طغيان أوجاع مرحلة جديدة يعيش فيها اللاجئ الفلسطيني في براثن الشقاء والتهجير والرحيل… صورتُ مقالاته وزودت أصدقائي بنسخ منها، لأنها تدفع القارئ إلى آفاق واسعة مزدحمة بالمشاعر والأفكارعن مأساة أسرة حيفاوية تتلمس في ظلمة الحروب سبيلها إلى النور.
توالى تواصلي مع علي بدوان من خلال الرسائل المتبادلة بيننا، عبر الفيس بوك والبريد الإلكتروني، زودني من خلال رسائله بصور كثيرة: منها صورة لأمه يوم زفافها في حيفا عام 1943، وصورة لوالده مع أخته الكبرى رحاب في ساحة الحناطير “الخمرة” في أول أيام العيد عام 1946، وصورة لجده قاسم عابدي، ولجدته خيرية الحاج، ولجدة أمه فاطمة القلعاوي، ولعم جدته عبد الرحمن الحاج الذي تولى رئاسة بلدية حيفا في عشرينات القرن الماضي، ومجموعة صور أخرى كثيرة لمخيم اليرموك بعد تدميره، بينها صورة له يظهر فيها فوق أنقاض بيته، وهو يبحث عن بقايا أوراقه وكتبه واقراصه المدمجة وصوره ووثائقه وتسجيلاته ومقابلاته، التي ضاعت كلّها تحت أكوام التراب.
بعدها توالى التواصل بيننا عبر الهاتف، طافت بنا المكالمات الهاتفية في فيض تفاصيل كثيرة عن الصداقة التي ربطت أسرتينا قبل النكبة، أكدت له أمه تذكرها لأمي ولعلاقة الصداقة التي جمعت والدي ووالده في رحاب حيفا، أثناء سنوات الفتوة والشباب والعنفوان، استحضرت معه لحظات خاطفة من تلك الأيام بتعابير مؤثرة كما لو أنها حدثت بالأمس، وليس قبل نيف وستين عامًا مضت… توالت الانفعالات وهو يحدثني عن أوضاع أمه الحالية وهي في التسعين من عمرها، بينَ لي أن ذهنها ما زال متقدًا وحاضرًا خاصة في سيرة الوطن والناس قبل النكبة وبعدها، كما أكد لي مرارًا بأن محنة نكبتها الجديدة لن تنسيها حلم العودة إلى حيفا الذي تحمله في قلبها، لن تتنازل عنه طال الزمن أو قصر… ستبقى مرتبطة بحبل سُري بأرضها وناسها وبجذور أيامها الماضية.
وفي هذا الجانب زودني بمقالة مطولة كتبها عن أمه بعنوان: “اليرموك وأم العبد، أيقونة مخيم اليرموك” قرأتها عدة مرات، ووجدت كلماتها رقيقة مثل النسيم، طرزها على خفق حروف عذبة استلها من عروقه، توقفت مطولًا عند مقالته، وسرعان ما اتصلت به هاتفيًا للتحدث معه حول أمه.
قلت له معبرًا عن إعجابي بمقالته: “إنَّ أمك فعلًا أيقونة مخيم اليرموك، تستحق لقب”الأم المثالية.“أجابني:”تحملت مسؤولية الأسرة بعد وفاة والدي، حافظت على ذكراه وكافحت من أجل أحد عشر من فلذات كبدها من البنين والبنات، سنين طويلة عاشتها في مهجرها بعيدًا عن وطنها وهي تكافح من أجل أسرتها، وتعتقد دوما بأن غربتها عن وطنها مؤقتة ولا بدّ من العودة إلى بيتها، وما زالت تعيش حتى الوقت الحالي على أمل العودة إلى حيفا.“وأضاف مستدركًا:”جمعت أمي ثنائية“الإرادة والتحدي، زادها اليومي هو الوعي الفطري، فكانت حياتها، وحيات أبنائها، خلاصة حياة الفلسطيني في منافي الشتات خارج الوطن، خلاصة الجمع بين الحياة ورونقها وجمالها، وعراكها اليومي والمأساة الفلسطينية، ما زالت تواصل الحياة حتى الآن، بعد نكبة مخيم اليرموك، كأيقونة نادرة، ليست لأسرتنا فحسب، بل لمخيم اليرموك والشعب الفلسطيني، ولحارة الفدائية، من شارع علي الخربوش وحتى نهاية شارع مفلح السالم”.
اتضح لي من خلال أحاديثي الهاتفية مع علي بدوان، ومن كتاباته عن أمه بأنها “شاهد معمر على النكبة ووقائعها ويومياتها، عندما خرجت من حيفا مع أطفالها وزوجها، في الثاني والعشرين من نيسان1948 ، وهي الشاهد الحي أيضًا على مسيرة السنوات الحالكة التي تلت عام النكبة، والشاهد الحي على عراك وضنك الحياة التي رافقت الفلسطيني منذ سنوات اللجوء الأولى، والشاهد الحي على أول طوبة وضعت عند بناء مخيم اليرموك، بدءًا من حارته الأولى، حارة الفدائية، كما هي الشاهد الحي على تدمير بنايتها وتسويتها بالأرض في نفس الحارة”.
وهي أيضًا حسب وصفه لها: “شاهد حي على قسوة وجور الحياة التي رافقت اللاجئ الفلسطيني، من كافة مناحيها اليومية، واجهت المصاعب بجرأة كبيرة، وصنعت من اللاشيء كل شيء، من بطانيات الأونروا، ومن خيش أكياس الطحين، وصولًا لتعليم كل أبنائها في الجامعات… إنها مأثرة من مآثر مخيم اليرموك، امرأة منتشية في كل خلايا جسدها وروحها برائحة فلسطين وترابها.”
لفت نظري في أحاديث علي ومقالاته، سعة اطلاعه على أحوال اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، لا أظن أن أحدًا مثله كتب عنهم من قبل، يضع القارئ في قلب حراك مخيم اليرموك، يصف بحس وجداني تفاصيل حاراته وشوارعه وبدء تأسيسه في عام 1954، ويُبرزالحياة اليومية لسكانه بأطياف شتى من الناس الأحياء منهم والشهداء والأموات، ضمن سياقات تعريفية لمنابت جذورهم، على امتداد مئات القرى والمدن الفلسطينية، وانحياز كامل لهمومهم وطموحاتهم الوطنية، ومشاعرهم الدفينة، وإظهار كل واحد منهم كخيط ناظم في سجل وجداني للذاكرة الجمعية الفلسطينية.
وفيما كنت أسأله عن بعض حيثيات تلك العائلات، وجدته يستطرد في أحاديثه الهاتفية عن فلسطينيّي سوريا عمومًا، الذين عاشوا مأساتهم الجديدة قابضين على الجمر المتقد في مخيم اليرموك، وهم يعبرون أقصى المُنعطفات والمصاعب في حياة الشعب الفلسطيني في المنافي والشتات، ولا يتحدث فقط عن واقعهم الراهن، بل يعطي خلفية مرجعية لماضي أيامهم في سوريا، في سياق تفاصيل جزئيات كثيرة عن تميز مئات منهم من المبدعين في كافة مجالات الآداب والفنون المختلفة، سجل أسماءهم في قائمة طويلة بعنوان “أزاهير يرموكية وفلسطينية سورية” ألقى الضوء فيها على مئات المشاهير من الشعراء وكتاب الرواية والقصة، ومن فناني المسرح والسينما والتلفزيون والموسيقى، ممن تكتسب نتاجاتهم مكانة مقدرة في النهضة الأدبية والفنية السورية المعاصرة، وحققوا حضورًا لافتًا ومميزًاعلى مستوى الدول العربية.
ومن الصور الواقعية المستمدة من مخيم اليرموك، لفت نظري بعض ملامح المكانة الثقافية للمخيم، التي يوجزها علي بدوان في عشرات النوادي ودور النشر والمكتبات، والمراكز الثقافية التابعة للحكومة السورية، وللهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين، وللفصائل الفلسطينية ولوكالة الأونروا، ترسخت بها مكانة المخيم كمركز ثقل ثقافي في دمشق.
***
يتسع مدى المعلومات التي كتبها علي بدوان عن مخيم اليرموك، ونشرها في مقالات كثيرة، بينه فيها كرمزٍ للمسيرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وأكبر تجمع فلسطيني في منافي الشتات على الإطلاق، منبت قل مثيله لجذور فلسطينية كثيرة امتدت في ترابه بعد النكبة، أجيال كثيرة رأت فيه النور، وتعرفت فيه على قضيتها وناضلت من أجل فلسطين، الحاضرة دائما في قلوب سكان المخيم ووجدانهم… وجدت متعة بقراءة ما يكتبه عن اليرموك في كلمات معبرة، بفيض تفاصيل كثيرة، وجدته فيها يجبل تراب المخيم بنسيج الهوية الفلسطينية، كأنه قطعة من سهول الجليل أو قطعة أرض متشابكة مع موارس حيفا.
وفي ثنايا ما كتبه من تفاصيل في هذا الجانب، يبين علي بدوان أنَّ “تداخل مخيم اليرموك مع جيرانه من أحياء دمشقية كحي التضامن والقدم والعسالي والحجر الأسود ويلدا، ليس تداخلا جغرافيا فحسب، بل هو تداخل إنساني بالدرجة الأولى بين شعبين ملتصقين، أدى وظائفه في ولادة”سوسيولوجيا“اجتماعية واحدة بتأثير فلسطيني طاغٍ، بات فيها سوريو مخيم اليرموك فلسطينيين أكثر من كونهم سوريين، وهو ما دفع بقطاعات واسعة منهم للانخراط في العمل الوطني الفلسطيني”.
وبلغة الأرقام كان عدد سكان مخيم اليرموك قبل دماره نحو مليون مواطن، منهم ربع مليون فلسطيني والباقي من السوريين، وقد تهجر غالبية سكانه من بيوتهم بين عشية وضحاها، في الفترة الأولى من الحرب السورية الأهلية، وبقي من سكانه في الوقت الحالي نحو عشرين ألفًا تحت الحصار المطبق من كل الجهات، يضيق عليهم الحصار في ظلّ ظروف حياتية ومعيشية قاسية شديدة التعقيد، وفي أتون حرب كارثية دامية لا ترحم، تفضي في كل يوم إلى مزيد من الدمار والجوع وفقدان الأمن والأمان.
تمكن علي بدوان عبر تقاطعات معلومات كثيرة تتشابك مع أحداث مخيم اليرموك المأساوية، أن يدون في الذاكرة الجمعية الفلسطينية رواية تجسد جرحًا فلسطينيًا ما يزال ينزّ دمًا حتى الآن، رواية لا تتقاطع بفصولها المتلاحقة مع فلسطينيي سوريا فحسب، بل مع كل الفلسطينيين في كل مكان