هكذا تولد الحضارة أو قصيدة النبيذ

* يوم ذيل الفنان عبد عابدي بتوقيعه قصيدته الرخامية المنسوجة من نبيذ الصخر والمعدن الصلب على ثرى كفركنا لم تكن لوحة التوقيع قد احتلت موقعها بعد. كان الفرح يدق شغاف القلب، بكلمات الوطن والشهادة، وكان الأهل كل الأهل يستعيدون ذكريات البطولة لأبناء هذا البلد، الذين استشهدوا في معارك امتدت منذ أواسط الثلاثينيات وحتى أواسط السبعينيات، في الدفاع عن الأرض والإنسان. ذات يوم، قبل أشهر، جاءني أبو أمير، يعرض أمامي مجسم اقتراح أولي للنصب التذكاري لشهداء كفركنا، جاء بدافع الصداقة والمودة، وبما يتوطد فيه من شجاعة وكفاءة الفنان الأصيل، الذي يحمل الدفء في شرايينه، لأصدقائه ومحبيه.. فكان تفكيرنا المسموع يمتد نقاشا بيننا لساعات، بيد أنه في نهاية المطاف يصل إلى إصرار ليس منه بد بأنه يجب أن يقوم هو بتنفيذ هذا العمل، حتى لا تتاح الفرصة أمام من اجترحوا حداثات مبهمة، تنای عن ينابيع الشهادة وتصبها، لتغدو نصب شهادات، ونوافير ترحب بزائريها!!

و جدارنا الأخير

استغرق العمل على إنجاز النصب التذكاري عدة أشهر، لا يعرف الكثيرون مدى مشقته ومدى صعوبة استشفاف لنبيذ من الصخر، حتى وإن كان صخر الوطن. جاء الجدار .. هذا الممتد كخلفية أمام حجر الزاوية ، منتصبا كالمارد ، . منحنيا من جانبيه كعباءة الأنبياء، عنوانا لجدارنا الأخير..!! علقت على بساطه أسماء الشهداء، جذورنا في هذا الوطن، جذورنا الممتدة شرايينه في اعماق الأرض منذ تلك السنين، تطال الذاكرة، وكل ما في القلب من حنين، تريدنا وعدا وعها.. إلى أبد الآبدين، فهذه الأرض النا، «رغم أنف الغاصبين». سكبت أحرف الأسماء من معدن صلب بلون الرماد، تتداخل فيما بينها، كانها أغصان الزيتون والقرنفل، حملت أكاليل الغار، متوكئة على قارعة الطريق، لتخبرهم.. « إنا هنا باقون.. على صدوركم باقون… على تفتي الورقة المعدنية المعلقة على لجدار، تفتح صدرها وتقرا الأسماء بصوت الكبرياء، وتغني على قيثارة العودة لحن البقاء. هكذا مدها عبد عابدي بماء آلهة العشق والحنين، لتبقى إلى دهر الداهرين، اول قصيدة نبيذ، تولد في اول ارض، تشرب من النبيذ الذي عتقته السماء. والنصب التذكاري، الشاهد، حجر الزاوية، الذي تدحرج من حضارات قديمة، ربما جاء من بقايا صومعة كنعانية، أو من هيكل كنيسة بيزنطية حررها صلاح الدين، أو من حطام مئذنة مسجد اموي طالته يد الغدر والنون؟! فهذا الحجر الذي تركه البناؤون اصبح راس الزاوية!! وهذه أنت يا قانا الجليل، يا كفر قانا، تعلنين باسم الحجارة الباقية في أسفل الوادي.. أنك راس الزاوية، إذ تتجسد على ثراك، أسماء جذورنا الممتدة في باطن الأرض. أيقن الفنان عبد عابدي أن لهذا الصرح، في ثنايا جزئه الأعلى، قصة تمتد لحضارات وعصور خوال..! فهو يجثم فوق قطعة من المعدن، التجمع بينه وبين جزئه الأسفل، ولتفرق بينهما في آن.. ففي حين نجد استمرار الإلتواءات ما بين جزئه العلوي والسفلي، نجد الاختلاف في مسارها ومواقع التقائها، لتعبر عن اختلاف الحضارات التي مرت عليه وتعددها، وهو ورغم ما لديه من ثقل في اوزاره، إلا أن صلابة القطعة المعدنية الفاصلة والجامعة فيما بين جزعیه، تعلن قدرتها على البقاء، وتعلن أن كلمات قصيدة الشاعر احمد دحبور الحيفاوي، بحروفها العربية، باقية بقاء الدهر. وللسنابل المنقوشة على إحدى واجهاته، رواية الأنبياء، وصلة من العرق والجهد ربطت الإنسان بالأرض، منذ ما قبل التاريخ إلى الآن..! هكذا تنتقل الرموز من حبة تتوالد في كل موسم، إلى نقش ازلي يمارس طقوس العبادة للأرض والحياة.

زاهد عزت حرش

وصوت المطرقة •

كان الفنان عبد عابدي، مفعما بفرح ربيعي، يوم التقينا على أرض محجر خشيبون، والحجران ملقيان على المسطبة.. حيث يمران في مرحلة التخمير والتعتيق؟! فمطرقة هنا وأخرى هناك، وإزميل الفنان الجولاني، حسن خاطر، يعمل باسم الحضارات القديمة، فتشتد شحنات العطاء لتبدو الوجوه صافية كسناء سماء الصيف، فيرن صوت مطرقة حسن خاطر متتاليا كناقوس ليلة العيد.. مسرعا كانه يبحث عن كنز، خباته مسامات الصخر منذ قرون.. وتنقشع الأشياء رويدا رويدا، تظهر علامات الولادة لجديدة..! لتشكل جزءا من وجودنا الحضاري. هكذا تولد معالم الحضارة، فحين يتحد الفكر بالجسد بالروح بالوجدان، ينبثق العشق لحقيقي للحياة. وإن فريح كل بما لديه من فرح.. فهناك الفرح الإلهي الذي لا يعرفه أحد، سوى أولئك الذين جربوا مهنة الخلق، مهنة الإبداع. فرح يأتي كانبثاق الحياة من الحياة، كانبعاث أول زخات المطر.. كالموت والولادة، ما أصعب أن يحدث مرتين!! فشكرا لك حسن خاطر على هذا العطاء، هذا اللقاء، فالواحد للآخر، والكل في سبيل حمل الأمانة، ودفع السفينة إلى أن تصل إلى بر الأمان!! وإلى أن تعود سفينتكم إلى شواطئ مراسيها، وتلتقي الأرض بالأرض، ويلتقي الجولان حوران، نعاهدك أن نكون إلى جوارك، يوم إقامة قوس النصر، احتفالا بزوال الاحتلال!!

• إزاحة الستاره

ليس من أحد أحق من الفنان عبد عابدي بكلمة شكر وثناء، على ما قدمه من تضحية وجهد. في سبيل إنجاز هذا الصرح، الذي يضاف إلى سجله الإبداعي بجدارة واستحقاق. ومهما يكن، يا أخي أبا أمير، من جهد وتضحية، فحسبك انك كنت الصخرة التي تحمل الآلام والآمال والعطاء. وحسبك ما في داخلك من ضياء!!

source: https://www.nli.org.il/en/newspapers/?a=d&d=alittihad20000922-01.2.144

Let your voice be heard! Share your thoughts and ignite the conversation. Your comments matter!

المشاركات الاخيرة

من عام 1962 حتى اليوم: إطلاق مكتبة عبد عابدي الإلكترونية وأبرز المحطات الإعلامية
يوليو 16, 2025By
المبدع الفلسطيني عبد عابدي..حاملًا ربيع الفن التشكيلي
يوليو 9, 2025By
دعوة لحضور حفل افتتاح المعرض Heartache מועקה ُو َجع
يوليو 1, 2025By
إقبال على معرض الفنان الفلسطيني عبد عابدي
مايو 20, 2024By
الفنان عبد عابدي… يروي حكاية حيفا في ذكرى احتلالها
أبريل 29, 2024By
لا يوجد هناك مكان: معرض في متحف الفن الحديث في فرانكفورت
مارس 25, 2024By
دعوة: أصوات من مشروع المقابلات “الفن في الشبكات” يوم 21 مارس في الألبرتينوم
مارس 18, 2024By
أصداء البلدان الشقيقة / بيت الثقافات العالمية في برلين
فبراير 10, 2024By
“على هذه الأرض” يجمع الفنانين العرب حول فلسطين
نوفمبر 27, 2023By
البرتينوم: رومانسيات ثورية؟ تاريخ الفن العالمي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية
أكتوبر 31, 2023By

الأعمال الأخيرة

GDPR

اكتشاف المزيد من عبد عابدي

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading