تال بن تسفي
توجد للفنّ الفلسطيني المنتَج في حدود 1948 ميزات خاصة، تنبع من كونها جزءًا من الثقافة البصرية لدى الأقليّة الفلسطينية في إسرائيل. في هذا البنيان الفني–الوطني لعب الرسّام، المصمّم الغرافيّ وفنان الطباعة عبد عابدي دورًا مركزيًا، بحكم عمله مدة عشر سنوات، 1972-1982، مُصمّمًا غرافيًا لمنشورات الحزب الشيوعي والجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة، ومنابرهما الإعلامية – جريدة “الاتحاد” والمجلّة الأدبية “الجديد“. كذلك، نُشر العديد من رسوماته في جريدة “زو هديرخ” الحزبية الصادرة بالعبرية، وفي مختلف ملصقات الانتخابات وغيرها من ملصقات القائمة، الحزب والجبهة. حقيقة أنّ عابدي كرّر أكثر من مرّة استخدام صور رسمها في سياقات مختلفة، عزّزت من المكانة الأيقونيّة للعديد من أعماله.
يتمحور هذا المقال في موضوعين يؤدّيان دورًا مركزيًا في بلورة الثقافة البصرية والذاكرة الجماعية لدى الأقلية الفلسطينية في إسرائيل. أوّلها “فنّ الطباعة“. أستخدمُ هذا المصطلح لتعريف فضاء وتقنية عرض أعمال فنية تمّت طباعتها بمقاييس كبيرة نسبيًا في صحافة مكتوبة، كتب، كتيّبات، ملصقات وبطاقات. على الرغم من أنّ هذه الأعمال عادةً ما رافقت نصوصًا سياسية، صحفية، أدبية وشعرية، إلا أنها ليست تخطيطات فحسب، وإنما نصوص بصرية تساوي من حيث القيمة تلك النصوص اللغوية. من خلال هذا الفضاء وهذه الممارسة، تؤسّس الأعمال المنسوخة بالتدريج للثقافة البصرية لدى الجمهور الهدف الذي توجّه إليه. وهكذا، فهما فضاء وممارسة عرض مستقلّين بديلين من الأعمال الفنية، وقد أدّيا دورًا مركزيًا هامًا جدًا في بلورة الثقافة القومية لدى جميع أجزاء الشعب الفلسطيني.
الموضوع الثاني هو تخطيط، تصميم وإقامة النصب التذكاري “يوم الأرض” في سخنين في الأعوام 1976-1978 بما في ذلك رسومات التحضير التي رافقته، جنبًا إلى جنب مع الفنّان غرشون كنيسبل.1 يُعتبر هذا النصب التذكاري إحدى نقاط التحوّل في الحضور الفلسطيني داخل الحيّز العام في نطاق إسرائيل، وباتت العامل الأكثر تأثيرًا وأهمية، خصوصًا فيما يتعلق ببلورة الذاكرة الجماعية القومية عمومًا، والذاكرة البصرية خصوصًا لدى الأقلية الفلسطينية في إسرائيل.
أ. الرائد أمام المعسكر: عبد عابدي
معالم بيوغرافية
ولد عبد عابدي عام 1942 في حارة الكنائس في البلدة التحتى من حيفا. في نيسان 1948هُجّر من بيته مع أمّه، أخوته، أخواته، بينما بقي والده في حيفا. خرجت الأم وأولادها من حيفا إلى عكا، ومن هناك أبحروا بعد نحو أسبوعين في سفينة متآكلة إلى لبنان. في البداية تمّ وضعهم في مخيّم الكرنتينا في ميناء بيروت، ثم نُقلوا إلى مخيّم اللاجئين المية ومية قرب صيدا وواصلوا طريقهم من هناك إلى دمشق. بعد ثلاث سنوات من الترحال بين مخيّمات اللاجئين، سُمح للأمّ وأولادها بالعودة إلى داخل إسرائيل عام 1951، في إطار لمّ شمل العائلات.
انضمّ عابدي في شبابه إلى اتحاد الشبيبة الشيوعية في حيفا، وهنا بدأ طريقه الفنّي. في هذا المحيط، تعرّف على الواقعية الاجتماعية وعلى فنّانين إسرائيليين تبنّوا هذا الأسلوب، وكانوا حينذاك مقرّبين من اليسار الاشتراكي/الشيوعي في إسرائيل. عام 1962، انضمّ عابدي إلى منظّمة الرسامين والنحاتين في حيفا، وكان أوّل فنّان عربي في أعضائها. في السنة نفسها عرض أيضًا معرضه الأول في تل أبيب. عام 1964، أرسله فرع الحزب الشيوعي في حيفا لدراسة التصميم الغرافيّ، الجداريات، النحت البيئيّ والفنّ في درزدن، جمهورية ألمانيا الديمقراطيّة. مكث عابدي في ألمانيا سبع سنوات، حيث أنهى اللقب الثاني وسنة تخصّص هناك. التقى في “الكلية العليا للفنون” في درزدن مَن ستصبح معلّمته ومصدر إيحاء هامّ له، الفنّانة اليهودية ليئا غرونديغ التي سطع اسمها في الرسم الاحتجاجي ضد الفاشية والنازية. في تلك السنوات تأثّر عابدي بفنّانين ألمان مثل غيرهرد كتنر وغيرهرد هولبك.
بعد أشهر على عودة عابدي إلى حيفا عام 1971، فاز في تشرين الثاني 1972 بجائزة هيرمان شتروك من قبل بلدية حيفا2، وقدّم معرضًا لأعماله في جاليري بيت الكرمة في المدينة. عام 1973، تمّت طباعة الرسومات التي شملها ذلك المعرض وصدرت في مجموعة مطبوعات، ثمّ نشرت في مناسبات مختلفة في “الاتحاد” و“الجديد” ومنشورات أخرى. في السبعينيات والثمانينيات، رسم رسومات لنصوص بأقلام كتاب وشعراء فلسطينيين وإسرائيليين. عام 1978، بعد مرور سنتين على يوم الأرض أقام مع غرشون كنيسبل النصب التذكاري ليوم الأرض. لاحقًا، أقام نصبًا تذكارية في شفاعمرو، كفر كنا وكفر مندا.
عمل عابدي على مرّ السنين معلمًا للرسم في كفر ياسيف ومنذ العام 1985 يعمل مُحاضرًا للفنّ في المعهد العربيّ للتربية في حيفا. في السنوات التي عمل فيها محرّرًا غرافيًا لل، “الاتحاد” و“الجديد” (1972-1982) نشرت العديد من رسوماته فيهما، وكذلك في منشورات سياسيّة كثيرة، منها ملصقات لإحياء ذكرى يوم الأرض، مجزرة كفر قاسم ومنشورات انتخابات للحزب الشيوعي.
درزدن، فترة الصقل: تأثيرات فنية – أيديولوجية
في الأعمال التي أنتجها عابدي خلال سنواته السبع في درزدن، يمكن أن نلاحظ بوضوح آثار توجّه مثابر من حيث الموضوع والأسلوب الفنّي، حيث تمحورت في شخصيات لاجئين ونُفذت بأسلوب واقعيّ اجتماعيّ وبوسائل فنية غرافية مثل رسومات، طباعة حجر ونقش ترافقها نصوص سياسية وأدبية تتناول مسائل العدالة والأخلاق. تأثّر هذا التوجه إلى حدّ كبير بالرؤيا السياسية–الاجتماعية التي تبنّاها عابدي منذ شبابه حين انضمّ إلى الحزب الشيوعي، لكنها رُفدت أيضًا من خلال فنّاني التيار الواقعي الاجتماعي في الفن الإسرائيلي. لكنّ هذه الخيارات نضجت في درزدن بإيحاء من أعمال فنّانتين: فنانة الطباعة، الرسامة والنحاتة كيتا كولفيتش (Käthe Kollwitz) والرسّامة وفنّانة الطباعة ليئا غرونديغ (Lea Grundig).
خصّصت كيتا كولفيتش (1867-1945) عملها الفني لتقديم أوصاف متعاطفة مع المعاناة الكونية الناجمة عن العيش في معاناة، استغلال وغبن، ومن أحداث تاريخية ثورية أو صادمة. وقد عرفت بشكل مباشر حياة المعاناة، الفقر والجوع. فبعد أن تزوّجت من الطبيب كارل كولفتش (1891) انتقل الزوجان إلى حيّ العمّال في برلين، ووفّرت لها هذه البيئة موادّ حصّنت وعيها السياسيّ وغذّت إنتاجها الفنّي حتى وفاتها.3 تشمل أعمالها الشهيرة سلسلة “تمرّد النساجين” (1893-1897)، التي تستند إلى مسرحية لغيرهرد هاوفتمان (Hauptmann) وتصف تمرّد النساجين في شلزيه عام 1844، سلسلة “حرب الفلاحين” (1901-1908)، المخصّصة لانتفاضة الفلاحين في جنوب ألمانيا منتصف القرن الـ16، النصب التذكاري “الأهالي الثاكلون” (1914-1932) والمنشورات الكثيرة التي صمّمتها لـ IAH (منظمة دعم العمال الدولية)، بدءًا من العام 1920. في جمهورية فيمر، حظيت كولفيتش بمكانة مرجعية وتم تعليم ونشر أعمالها في ألمانيا. بعد اعتلاء النازيين الحكم، أجبرت كولفيتش على الاستقالة من أكاديمية الفنون وأعلن عن أعمالها بأنها “أعمال منحلّة“، وتمّت إزالتها من العروضات العلنيّة. مرّت معظم سنوات الحرب عليها في برلين، ولكن في العام 1943 تمّ إخلاؤها إلى درزدن، حيث توفّيت في 22 نيسان 1945، بعد حوالي أسبوعين على استسلام ألمانيا النازيّة.
عرف عبد عابدي أعمال كولفيتش جيدًا قبل سفره إلى ألمانيا. فقد طُبعت أعمالها في إسرائيل في الخمسينيات في مجلات فنية مثل “مفغاش” (لقاء)، وفي صحف شيوعيّة مثل “كول هعام” (صوت الشعب)، “زو هديخ” (هذه الطريق) و “الاتحاد“. أصدقاء وزملاء عابدي، مثل روت شلوتس، يوحنان سيمون، موشيه غات وغرشون كنيسبل، درسوا أعمال كولفيتش بتمعّن.4 أعمال الرسم، الطباعة، والنقش التي أنتجتها أثّرت على أجيال من الفنّانين ذوي الوعي الاجتماعي–السياسي ورهافة الحسّ نحو المعاناة الإنسانية في ألمانيا وخارجها.
لكن، في حين تعرّف عابدي على أعمال كولفيتش، أساسًا، من خلال نسخ عنها، فإنّ تأثير ليئا غروندغ على عمله كان مباشرًا. عرفت غروندغ كيتا كولفيتش وواصلت طريقها، بعدة مفاهيم، في الستينيات أيضًا. بالإضافة إلى تجسيد معاناة الطبقة العاملة، اتّسمت أعمال غروندغ ببصمة فظائع الحرب العالمية الثانية، حيث تتمحور الأيقونوغرافيا التي أنتجتها في مسائل كاللجوء، التهجير، الناجين وغيرها. وهي مسائل باتت من سمات تلك الحرب. يظهر تأثير أعمال غروندغ العميق جدًا في تطوّر أعمال عابدي، كفنّان خلال تعليمه وعبر بلورة أيقونوغرافيّة اللجوء عمومًا وأيقونوغرافيّة النكبة خصوصًا في أعماله.
ولدت ليئا غروندغ (لانغر، في الأصل) في درزدن عام 1905 وتوفّيت خلال رحلة لبلدان الشرق الأوسط عام 1977. تعلّمت لدى أوتو ديكس في أكاديمية درزدن للفنون، تزوّجت من الرسام هانز غروندغ، وانضمّ كلاهما كعضوين ناشطين إلى الحزب الشيوعي الألماني (KPD) في درزدن. بعد صعود النازيين إلى الحكم، لوحقت ليئا وهانز غروندغ، اعتقلا للتحقيق وتمّ سجنهما عدة مرّات. قبل إرسال زوجها إلى معسكر اعتقال بفترة قصيرة، غادرت ليئا ألمانيا عام 1939 وجاءت إلى البلاد على متن سفينة الطرد باتريا عام 1940. في العام 1944 عرضت “في وادي القتل” (1943)، وهي سلسلة رسومات تطرّقت مباشرة إلى أحداث الكارثة: لجوء، تهجير، عربات بضائع، إعدامات، معسكرات اعتقال وغيرها. لم تتقبل المؤسسة الفنية في البلاد أعمال “في وادي القتل” بحفاوة، وقد استصعبت ليئا غروندغ التي مكثت في البلاد خلال الحرب العالمية الثانية، كيف يمكن لفنّاني البلاد اليهود تجاهل الكارثة.5
بعد إطلاق سراح زوجها من معسكرات الاعتقال، انضمّت ليئا غروندغ إليه في درزدن عام 1947، وكانت المدينة جزءًا من منطقة الاحتلال السوفييتي، وابتداء من العام 1949 جزءًا من جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وأصبحت محاضرة تحظى بالتقدير في أكاديمية درزدن للفنون ورسّامة هامة، في حين سُرعان ما لفّها النسيان في البلاد.
اللقاء بين عبد عابدي، شاب فلسطينيّ عمره 22 عامًا وصل للتوّ من إسرائيل، وبين ليئا غروندغ، معلّمته في قسم الطباعة والنقش في أكاديمية درزدن للفنون، كان لقاء هامًا جدًا بالنسبة إليه.6 علاقتهما تجاوزت أكثر بكثير العلاقة بين طالب ومعلّمته؛ فقد فتحت غروندغ بيتها أمامه وباتت سندًا اجتماعيًا وثقافيًا له خلال معظم فترة مكوثه في جمهوريّة ألمانيا الديمقراطية.
لكن من المهمّ التشديد على أنّ هذا اللقاء المفاجئ بين شاب عربي من ضحايا النكبة وبين اليهودية الناجية من الكارثة جاء في سياق القاسم المشترك السياس والمعيشي بينهما، من حيث التزامهما بالعدالة الاجتماعية واحتجاجهما ضد الحروب والثمن الباهظ الذي تكلّفه للبشرية جمعاء. بذلك، فإنّ تأثيرها ليس مشتقًا من سياق الثقافة أو التاريخ اليهوديين وإنّما من سياق الثقافة والرؤية الشيوعيّة. فالهوية الشيوعية الكونيّة وفوق القومية هي التي أتاحت اللقاء والصداقة بينهما، والتقدير الكبير الذي كان يكنّه أحدهما للآخر.
فنّ فلسطيني في الشتات الفلسطينيّ وفي الضفّة الغربية وغزّة
إحدى الميزات البادية للعيان عند الاستعراض الخاطف للفنّ الفلسطيني بفروعه المختلفة، هي الدور الهام الذي أدّته الطباعة في نشر الرسائل التي سعت هذه الثقافة لدفعها قدمًا. في سياق فنّ الطباعة، يبرز تأثير إسماعيل شموط (1930-2006)، وهو من أوائل الفنّانين الفلسطينيين. بعد تهجيره من مدينته اللد عام 1948، وصل بعد مسيرة طويلة وشاقة عبر الأردن إلى مخيم لاجئين في غزّة، وغادر لاحقًا (1956) إلى بيروت، قبل أن يغادرها إلى الكويت بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ثمّ عاش عدة سنوات في ألمانيا وأمضى بقيّة حياته في عمان (2006). مسيرة حياة شموط جسّدت عذابات مسيرة الترحال الفلسطينية. علاوة على ذلك، بكونه عرف نفسه فلسطينيًا وإنسانًا سياسيًا في المقام الأول، وفنانًا في المقام الثاني،7 أخذ شموط على عاتقه مهمة رواية قصة شعبه للعالم وللأجيال القادمة، بواسطة الفنّ. فقد عمل رئيسًا لقسم الفنون الأول في منظمة التحرير الفلسطينية، فور إقامة المنظمة عام 1964؛ وكان كتابه “فن من فلسطين” (الكويت، 1989) أول إصدار حول الفن الفلسطيني وتاريخه. لهذه الأسباب وغيرها، كان دوره هامًا بشكل متميّز سواء بالنسبة لنشوء حقل الفنّ الفلسطيني أو بلورة بنى تمثّل النكبة، ما لبثت أن انتشرت في أعمال فنانين آخرين في الشتات الفلسطيني، الضفة الغربية وقطاع غزة، ابتداء من الخمسينيات وحتى وفاته عام 2006. كذلك، فقد تمّ نسخ العديد من أعماله وحظيت بانتشار واسع على منشورات، بطاقات وتقويمات. في هذا الباب، كان تأثير شموط على أعمال عابدي هامًا في كل ما يتعلّق بصورة اللاجئين الفلسطينيين.
يشهد عابدي على التأثير المتبادل وعلاقات التفاعل الفنّي المتبادلة في السبعينيات والثمانينيات مع فنّانين فلسطينيين من أبناء جيله، سكّان الضفة الغربية وقطاع غزة، والذين نالوا تحصيلهم في مدارس الفنون في العالم العربي (خصوصًا في القاهرة، الإسكندرية وبغداد). من بينهم نبيل عناني (مولود في عمواس، 1943)، تيسير بركات (مولود في مخيم لاجئين في غزة، 1959)، إبراهيم سابا (مولود في الرملة، 1941)، عصام بدر (مولود في الخليل، 1948)، فيرا تماري (مولودة في القدس، 1945)، تهاني سكيك (مولودة في غزة، 1955), طالب دويك (مولود في القدس، 1952)، كمال المغني (مولود في غزة، 1944)، فتحي الغبن (مولود في غزة، 1947)، وغيرهم. الأبرز من بينهم هو سليمان منصور (مولود في بير زيت، 1947)، والذي تعلّم خلافًا لأعضاء هذه المجموعة سنة واحدة في معهد الفنون بتسلئيل في القدس (1969-1970). إلى جانب هؤلاء تعرّف عابدي أيضًا على أعمال فنانين أنتجوا في الشتات الفلسطيني وتناولوا “المعاناة الفلسطينية” برمزية تامة. من الفنانين البارزين في مخيمات اللاجئين كان ناجي العلي (ولد في الجليل عام 1936، وترعرع في مخيم لاجئين في لبنان) الذي عمل في لبنان ولندن.8 إبراهيم هزيمة (مولود في عكا، 1933 وترعرع في اللاذيقية–سوريا) نال عام 1960 منحة لدراسة الفن في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وواصل بعدها نشاطه في أوروبا. تمام الأكحل (مولودة في يافا، 1935)، تعلّمت الفنّ في الإسكندرية والقاهرة، تزوّجت من إسماعيل شموط، وعملت في بيروت ثم انتقلت إلى الأردن، وكمال بلاطة (مولود في القدس، 1942)، تعلّم الفنّ في روما وواشنطن، ومع إنهائه الدراسة عام 1968 بقي في الولايات المتحدة حيث كتب من هناك تاريخ الفنّ الفلسطيني من خلال العديد من الكتب، الكتالوجات والمقالات.
يجدر التنويه في سياق الفنّ الفلسطيني في إسرائيل إلى أنه نتيجة للنكبة الفلسطينية والحياة تحت الحكم العسكريّ، لم يبدأ الفنّانون الفلسطينيون بالنشاط داخل إسرائيل سوى في مرحلة متأخّرة نسبيًا، بعد مرور نحو 25 سنة على إقامة دولة إسرائيل. فرضت فترة الحكم العسكري عزلة قاسية على الفنّانين الباقين في نطاق إسرائيل. وقد تمّ فرض الحكم العسكري على معظم مناطق التواجد العربي، بحكم أنظمة الطوارئ البريطانية، بغية تقييد حرية التعبير والحركة وحرية التنظّم لدى المواطنين العرب، وقد قيّدها فعلا. وعليه، فبعد إنهاء الحكم العسكري عام 1966، بدأ الشبّان الفلسطينيون يخرجون لتعلّم الفنّ في البلاد والخارج. بعد عودة عابدي إلى إسرائيل، خرج لتعلّم الفنّ في السبعينيات والثمانينات الفنانون أسد عزّي (مولود في شفاعمرو، 1955)، إبراهيم نوباني (مولود في عكا، 1961)، عاصم أبو شقرا (مولود في أم الفحم، 1961) وأسامة سعيد (مولود في نحف، 1957)، ويعكس إنتاجهم الفنّي الثقافة المُميّزة للأقلية الفلسطينية في إسرائيل.9
الواقعيّة الاجتماعيّة في إسرائيل
قبل سفره إلى ألمانيا وكذلك مع عودته، نشط عابدي مع فنانين عُرفوا بفناني “الواقعية الاجتماعية” في إسرائيل، والذين تجمّعوا في الخمسينيات في حيفا “الحمراء“، المدينة المختلطة إثنيًا والتي ضمّت مجموعة العمّال الأكبر بين سكّانها.10 تناول هؤلاء الفنانون الواقع الإسرائيلي بجميع جوانبه، من خلال التماثل العميق مع المجموعات المضطهدة والمميّز ضدها فيها. لقد أرادوا خلق فنّ ذي مقولات اجتماعية مفهومة وفي متناول “جماهير الشعب“، ولهذا السبب أكثروا من إنتاج طباعات فنية ملائمة للجميع من ناحية سعرها وكذلك من ناحية مضمونها (المصدر نفسه). كان غرشون كنيسبل هو القوة المحرّكة في إطار الفنانين الواقعيين الاشتراكيين الحيفاوي، وضم أيضًا أليكس ليفي وشموئيل هلسبرغ، وكان على علاقة أيضا مع فنانين أنتجوا بهذا الأسلوب وسكنوا في مواقع أخرى في البلاد مثل أفرهام أوفك، روت شلوس، شمعون تسبار ونفتالي بزم (م. ن. 11).
التجنّد لفكرة ورؤية كونية ملحوظ أيضًا في أقوال عابدي نفسه خلال حوار،11 أجرته نقابة الرسامين والنحاتين في حيفا عام 1973 في بيت شاغال تحت عنوان “فنانون في أعقاب الأحداث“:
بقدر ما يعيش الفنان أحداث الماضي، الحاضر والمستقبل، فهو أيضًا يعيش صراع الإنسان مع الدمار والشر. حين تكون الإنسانية في حالة مأزومة، المطلوب من الفنان أن يتحدّث بتناغُم بواسطة الأداة الفنية التي بحوزته هي نفسها […] ومن هنا […] فإن دور الفنان في أعماله، في أفكاره وفي رؤيته هو تعزيز العلاقة الدائمة بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه. لقد تربّيت من خلال هذا التوجّه، وهكذا أفهم العلاقة بين إنتاجي الفني وبين الدور الذي حدّده كوكوشكا: “إزالة القناع من أجل أولئك الذين يرغبون في رؤية الواقع كما هو. دور الفنّ التشكيلي هو كشف الحقيقة لهم” (أ. نيف، “زو هديرخ“، 13.2.1974).
وفي حديثه عن فنّه وعن حرب 1973، قال عابدي:
انطلاقًا من رؤيتي ومن كراهيتي للحروب، وكذلك انطلاقًا من قلقي العميق على العلاقة بين الشعبين، العربي واليهودي، عرضت عملين موجودين هنا في المعرض (معرض كان موضوعه “صدى الأيام” بمشاركة فنانين من حيفا والشمال). حين دوّت المدافع في الجولان وعلى ضفاف قناة السويس وحين هدد الخطر المنطقة، تذكّرت أقوال بابلو بيكاسو، وقلت في عملي “لا للحرب” وفقًا لوعيي الفنّيّ، يجب على الفنّ أن يكون مجنّدًا ويؤدّي وظيفة“. (م.ن.).
ب. مجموعة طباعات اللاجئين
في السنوات التي قضاها عابدي في ألمانيا، 1964-1971، أنتج مجموعة لافتة من الرسومات، الطباعات الحجرية وأعمال النقش، التي خصّصها بمعظمها الساحق للنكبة أو للاجئين الفلسطينيين. عدد من أعمال اللاجئين، التي أنتجها عابدي في ألمانيا في السنوات 1968-1971 وأصدرها عام 1973 في مجموعة مؤلفة من 12 عمل طباعة بالأسود والأبيض بعنوان “عبد عابدي – رسومات“، تتيح فرصة للإطلال على عناصر مركزية ستتكرّر لاحقًا في العديد من أعماله. يظهر في هذه الأعمال أثر ذكريات من طفولته حين تنقل بين مخيمات لاجئين ومن الفترة اللاحقة للمّ شمل عائلته مجدّدًا في حيفا. استخدم عابدي لوصف اللاجئين توجّهًا واقعيًا اجتماعيًا من النوع الذي عرفه قبل سفره إلى ألمانيا وقام بتطويره خلال مكوثه هناك.
جميع الشخصيات التي تظهر في طباعات المجموعة هي شخصيات لاجئين. في رسمة الحبر، رقم 10، “المسيح قام” (صورة 1)، تبدو الشخصية كرجل حافٍ، مسنّ، طويل القامة وملتحٍ، يخطو وحيدًا وخلفه أكواخ أو بيوت آيلة للسقوط ذات سطوح حادة وحول رأسه قرنان رمزيان. في عمل آخر من الفترة نفسها لم تضمّه المجموعة، “لاجئ في خيمة” (صورة 2)، يتم التشديد مرة أخرى على وحدة اللاجئ. يعرض النقش بشكل مقرّب وجها ملتحيًا وتجاعيد، فمًا وعينين مرهقتين وما يشبه الطربوش الذي يبدو كخيمة. في جميع الأحوال، مقابل وحدة اللاجئ المسنّ في العملين الأخيرين، يقوم عابدي بوضعه في سياق اجتماعي في عمل الطباعة رقم 4 في المجموعة، الطباعة الحجرية “اكتشاف المسيح الجديد” (صورة 3). يصف عابدي هنا سيلا بشريًا، على رأسه رجل محمول على أكتافهم. شخصيات اللاجئين المجهولة مرسومة بشبكات من الخيوط التي تؤلّف جسمًا–كتلة–سيلا واحدًا، مصيرًا واحدًا، أرجلهم حافية، وعلى أجسادهم عباءات طويلة. الرجل المحمول على الأكتاف يبدو كأنّه ينمو من داخلهم ويداه الطويلتان منسدلتان بحركة تحيّة أو بمحاولة للحفاظ على التوازن. كتلة الشخصيات محاطة بفضاء فارغ، أشبه بشخصيات في أعمال أخرى من المجموعة (وأشبه بالعديد من أعمال كولفيتش). السياق الديني للمسيح المخلّص مفاجئ إلى حد ما، كوننا نتحدّث عن فنّان شيوعيّ، واقعيّ–اجتماعيّ. لكن مسيحه هذا إنسان عاديّ، معدَم، خرج من الشعب وتمّ اختياره من داخل الشعب، يبسط عليه يديه ورعايته ويفترض أن يقوده إلى غد أفضل. مقارنة بعمل إسماعيل شموط الشهير “الى أين…” (1953) (الصورة 4)، الذي يوجّه فيه اللاجئ المذعور نظرته نحو المسير في فضاء جغرافي جاف، يوجّه مسيح اللاجئين في أعمال عابدي نظرته بفخر إلى المشاهد من فوق قامته العالية. كذلك، مقارنة برسمة أخرى لإسماعيل شموط “عائدون” (1954) (الصورة 5)، الشخصية الفخورة للاجئ في عمل عابدي، والمرسومة بخطوط سوداء حادة، تبثّ إصرارًا وليس عجزًا أو ذعرًا.
لكن عابدي أيضًا يتناول عجز الفلسطينيين ويشدّد عليه في عمل الطباعة رقم 8، رسم بالفحم “لاجئون في الصحراء” (الصورة 6). في هذه الرسمة، يبدو اللاجئون عن بُعد كسرب بشريّ، أشبه بالشكل الذي تعرض به غروندغ لاجئيها، لكنهم لدى عابدي لا يملأون “المشهد” برمّته ولا يمكن التعرّف على تعابير وجوههم. ففي رسمه التعبيريّ يخلق مئات اللاجئين غير المحدّدين مسارًا متعرّجًا يختفي بمحاذاة الأفق داخل التلال. فوق اللاجئين، في الأعلى، تبرز شمس قائظة مرسومة بعدد من الخطوط القوية في سماء نظيفة تمامًا من الغيوم.
في سياق الاقتلاع وفقدان الهوية العائلية، يتمّ التشديد على الحضور النسائيّ خصوصًا. في الطباعة رقم 2، رسمة الحبر متراصّة الخطوط “نساء” (الصورة 7)، تظهر امرأتان مع غطاء على الرأس ويلفّهما الفستان/العباءة الطويلة وهن منطويتان كل على نفسها الواحدة مقابل الأخرى. وجه المرأة الجالسة إلى يمين الرسم موجّه نحو المشاهد بتعابير حزينة وقلقة. إضافة إلى خط الأفق وتلك الشمس القائظة، فإن الخلفية تخلو من أيّ تحديد، فتبدو المرأتان كأنّهما تطفوان في مدى الورقة.
صورة أخرى للاجئة تظهر في الطباعة رقم 1 من المجموعة، رسمة الحبر “دامعة” (الصورة 8) فيها صورة مقرّبة لوجه امرأة دامعة العينين، بمنظور يذكّر بأعمال كيتا كولفتش مثل “الأرملة“، 1922-1923 (الصورة 9).
مشاعر المأساة والوحدة تعبّر عنها طباعة رقم 6 بوضوح، وهي رسمة الحبر “نوم في الصحراء” (الصورة 10). وتظهر فيها شخصيّتان، طفل ووالدته، وهما مستلقيان وحدهما على الأرض تحت قبّة السماء. الشخصيتان يغطّيهما شرشف تصوّر ثنياته منظرًا طبيعيًا حادًا وخاويًا يُذكّر بصور المنظر الطبيعيّ في المجموعة. المنظر الحقيقي في الرسمة يلخّص بعدد قليل من الخطوط المكسّرة التي تشير إلى الأفق وإلى عدد من أعمدة وأسلاك الكهرباء. الأمّ والطفل مرسومان بتقنية القصَر (foreshortening) بشكل دراميّ حادّ. على الرغم من تغيير الوجهة من الرأسين فما بعد، وليس من الرجلين فما بعد، فإن هذا القصَر يذكّر برسومات أحد أوائل من استخدموا هذه التقنية، وهو فنّان النهضة الإيطالي أندريا مانتنييه (Mantegna)، “التفجّع على المسيح الميت” (1480، تقريبًا). لغرض تقوية الأثر الدراميّ، كشف عابدي أحد قدمي المرأة بحيث تطلّ من الشرشف، حيث أنّ هذا الكشف المؤثّر لقسم من الجسد يبرز قسوة حالة النوم على التراب.
الطباعتان الأخيرتان في المجموعة هما لمنظر طبيعيّ. تتميّز المناظر التي رسمها عابدي في ألمانيا بتكرار الخطوط السوداء الطويلة وبجوّ تعبيريّ من العاصفة. في الطباعة رقم 11، رسمة الحبر “السدّ” (الصورة 11)، تظهر أمواج تنكسر على سور عالٍ ذي قباب عالية، ظلال شخوص ضئيلة الحجم على سدّ عالٍ وشمس سوداء مرسومة بخطوط دائرية داكنة أشبه بسلك شائك ملفوف. في الطباعة رقم 12، رسمة الحبر “منظر متوحّش” (الصورة 12)، تظهر لربّما صخور، ولربّما جذوع أشجار مقطوعة، ما يشبه الدرب التي تشقّ طريقها داخل منظر أسود مثير للكآبة، غيوم مرسومة بخطوط سوداء تعبيرية وشمس سوداء. هذا منظر وعيويّ، منظر أسود لأرض محروقة. في غياب الناس وبشائر الحياة، تبدو الأرض كما لو أنّها تمثّل تجربة لاحقة للصدمة أو منظرًا ثقيل الوطأة، بعد النكبة. إنّها وسيلة إضافية لتجسيد جوّ المأساة، العاصفة والصراع الذي يُخيّم على جميع الأعمال في المجموعة.
في مقالة حول مجموعة الطباعات في “زو هديرخ” أشار أ. نيف (اسم مستعار للشاعر موشيه برزيلاي) إلى العلاقة بين أعمال عابدي وبين أعمال كيتا كولفيتش، وأشار إلى أنّ الأعمال في الألبوم تتحدّث “لغة واضحة بشأن عدم التسليم بالمصير الفلسطيني […] لألبوم متكامل، رغم اختلاف المواضيع. فالموضوع واحد: تماثل مع مصير اللاجئين وعدم التسليم بهذا المصير، والتعبير عن الأمل وعن عاصفة المشاعر” (أ. نيف، 11 تمّوز 1973).
تمّ نشر رسومات المجموعة في مجلّة “لقاء” وفي “زو هديرخ” إلى جانب مقالات ثقافيّة ونصوص شعرية ونثرية باللغة العبرية (رسمة “نوم في الصحراء“، مثلاً، طُبعت في “زو هديرخ” بتاريخ 15.11.1972، بينما الطباعة رقم 1 في المجموعة، رسمة الحبر “دامعة” طبعته الجريدة بتاريخ 11.7.1973). حضور هذه الرسمات والطباعات في المنشورات الثقافية ثنائية اللغة الخاصة بالحزب الشيوعي الإسرائيلي، يحمل أهمية كبيرة، فبفضلها ترسّخت في ذهن قرّاء تلك الصحف كتمثيلات النكبة بـ أل التعريف.
ج. “بوابة مندلباوم” والمتشائل لإميل حبيبي
خلال فترة مكوثه في ألمانيا، جاء عابدي من حين إلى آخر لزيارة الوطن. خلال زياراته تعرّف على عدد من أهم الكتّاب والشعراء الفلسطينيين. في تلك السنوات وما بعدها، زيّنت العديد من رسوماته إصدارات مبدعين مثل إميل حبيبي، أنطون شمّاس، محمد علي طه، سلمان ناطور، سميح القاسم وغيرهم. في هذا السياق، تستقي شخصيات عابدي المموضعة على الورق الأبيض قوّتها المحلية، العينية، من الفضاء النصّيّ الأدبيّ. من هذه الناحية، تأتي أعماله في ضوء التأثير النصّيّ الهائل للأدب، الشعر واللغة المحكية العربية على الفنّ الفلسطيني عمومًا بواسطة ما يسمّيه كمال بلاطة “التداعيات الخفيّة للكلمات“.12
في إطار علاقاته مع كتّاب وشعراء، تبرز خصوصًا العلاقة التي أقامها عابدي مع إميل حبيبي،13 المولود في حيفا مثله. وتجسّد التعاون المثمر بينهما، أيضًا، في الرسمة التي رسمها عابدي لقصّة حبيبي “بوابة مندلباوم“14 عام 1968 (الصورة 13) قبل عودته إلى البلاد. مرّة في السنة، في عيد الميلاد كان يتمّ فتح بوّابة مندلباوم، نقطة العبور الوحيدة بين شطري القدس حتى عام 1967، أمام المسيحيين سكّان إسرائيل أيضًا، لزيارة أقربائهم في مخيّمات اللاجئين في الأردنّ. مثّلت هذه البوّابة تقسيم القدس وفي الوقت نفسه تقسيم الشعب الفلسطيني بعد نكبة عام 1948.15
في الرسمة الخاصة بقصّة “بوّابة مندلباوم” يصف فراق امرأة متجعدة الوجه تتوكّأ على عصا وطفلة–فتاة منفوشة الشعر تقف وراءها مطأطئة الرأس، بجانب جدران الأسلاك الشائكة. ظلّ الفتاة الثقيل يرافق المرأة، يتّصل بيدها اليمنى ثمّ يعود كصدى على شكل العصا التي تتكئ عليها بيسارها. تقف الشخصيتان في حيّز ليس فيه سوى تفاصيلها الضرورية المرسومة داخل حيز خاوٍ – جدران من الأسلاك الشائكة وعمودان طويلان بينهما حاجز. عابدي يوجّه أنظارنا إلى ما يتجاوز المنطقة المشاع في بوابة مندلباوم. بلاص يصف كتابة حبيبي بأنها “وعي بالوطن الممزّق“، والمنطقة المشاع كما لو أنّها ترمز إلى تمزّق مزدوج “لمن اضطرّوا أن يعيشوا خارج بلادهم وهم يأملون في العودة إليها، ومن يعيشون منفصلين عن الغالبية الساحقة من شعبهم ويتمسّكون بالأمل في التوحّد معها“.16
بعد عودة عابدي إلى البلاد رسم رسومات للطبعة الأصلية، العربية، لكتاب “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” لإميل حبيبي، والذي نُشر عام 1977.17 في الرسمة الافتتاحية للكتاب (الصورة 14) يبدو وجه الرجل الغامض بشكل مقرّب وقد غطاه جزئيًا براحة يده المرفوعة كما لو بحركة تعني: توقف، تأمر المشاهد/القارئ/ة “حتى هنا“. فاليد لا تسمح بتحديد الوجه. لكنها تدعو المشاهد أيضًا إلى قراءة مستقبل الرجل في خطوطها. بهذا الشكل، يصف عابدي حبيبي، نتاج الواقع الإسرائيلي والهوية المركبة للأقلية الفلسطينية التي تعيش فيها، والتي تدير حوارًا معقدًا مع محيطها، من خلال المجاهرة بشيء والتكتّم على أشياء.
في رسمة أخرى (الصورة 15) المنشورة مقابل الغلاف الداخلي للكتاب، يبدو رجل تعس وملتحٍ تملأ وجهه التجاعيد وعيناه غائرتان. يرتدي جلابية خطوطها/ثنياتها مرسومة بحرص. راحته اليسرى الكبيرة موضوعة على صدره، والأخرى مسبلة إلى جانب جسده. داخل خربشات الخلفية التي تظهر جزئيًا كتمثيل مجرّد لكتابة عربية، هناك فتحة شبكية ترمز إلى سجن أو زنزانة. تصف القصّة، أيضًا، اعتقال سعيد أبي النحس المتشائل في سجن إسرائيلي وردّ فعله الساخر/المتهكّم على أسئلة المحقّق الإسرائيلي. لكنّ رسمة عابدي تبثّ حزنًا ويخلو من أية سخرية.
يسيطر جوّ ثقيل وكئيب أيضًا على الرسمة (الصورة 16) التي تظهر مقابل الفصل بعنوان “حادث أصعب على التصديق من الموت على الأحياء“. يبدو في الرسمة الجزء السفليّ لشخص ميت مغطّى جزئيًا ويرقد على مسطّح خشبيّ في حين أنّ قدميه مكشوفتان. خلف النقالة الطبية المرتجلة تقف نساء نائحات يرتدين الحجاب وأمامهنّ رجل ظهره للمشاهد ويحول أنطاره من الميت المستلقي تحته18. هناك دمعة في زاوية عين الرجل.
في أحد مقاطع كتاب حبيبي، يتوجّه والدا ولاء، سعيد (الراوي) وباقية، إلى الطنطورة من أجل إنقاذ ابنهما، ويجري سرد سيرتهما في الفصول القادمة إلى أن يبتلع البحر الابن والأم بشكل غامض. نصّ حبيبي الساخر والاستعاري يتهكّم على الجهود التي تبذلها قوّات الأمن الإسرائيلية لملاحقة ظلّ الوالدين. لكن رسمة عابدي القاتمة هذه تختار تجاهل سخرية النصّ، وبدلاً من ذلك تصف فاجعة الوالدين الرهيبة على ولدهما الميت.
التوتّر ما بين لهجة النصّ الساخرة والرسومات الداكنة التعبيرية قائمة في جميع حالات التعاون ما بين حبيبي وعابدي. عابدي يترجم السخرية الذاتية عديدة الطبقات لدى حبيبي إلى لغة بسيطة يفهمها الجميع، ويتمحور في مأساة الشعب الفلسطيني. لكن “وعي الوطن الممزّق” الذي يصفه حبيبي، يساهم في إبراز البعد النوعي لأعمال عابدي، الذي يسكن رسوماته أهالي القرى والمدن الفلسطينية إلى جانب لاجئين ومهجّرين. على الرغم من ذلك فإن هذا “الوعي” يصبو أيضًا إلى العدالة والمساواة للجميع وينعكس بلغة فنية كونية تتجاوز الحدود والقوميّات.
د. قصص النكبة: “وما نسينا“.19
درّة التاج في تعاطي أعمال عبد عابدي الصريح مع النكبة هي سلسلة رسوماته لقصص سلمان ناطور القصيرة “وما نسينا“، التي نُشرت للمرة الأولى في السنوات 1980-1982 في الجديد، ثمّ في ثلاثية المؤلّف.20 يظهر عنوان كل قصة في المجلة ضمن، أو إلى جانب، رسمة من رسومات عابدي. أسماء القصص: “حتى لا ننسى وكي نكافح“، “مقدّمة بقلم د. إميل توما“؛ “قرية عامرة في القلب“؛ “‘ديسكوتيك في جامع عين حوض“؛ “أم الزينات تبحث عن الشوشاري“؛ “حدثنا من يسمع من يعرف?”؛ “هوشة والكساير“؛ “وقوف عند زعرورة الجلمة“؛ “ليلة في عيلوط“؛ “مثل هالصبر في عيلبون“؛ “طريق الموت من البروة إلى مجد الكروم“؛ “مصيدة في خبيزة“؛ “المستنقع في مرج ابن عامر“؛ “ما تبقّى من حيفا“؛ “المفكّرة“؛ “يصغرون في العين.. يكبرون في اللد“؛ “من البئر وحتى جامع الرملة“؛ “ثلاثة وجوه لمدينة تدعى يافا“. تعكس العناوين والقصص مسحًا مجدّدًا لفلسطين الانتدابية، فلسطين المفقودة، بما يشبه المسح الذي أجراه بعد عقد من الزمن وليد الخالدي في “كي لا ننسى“.21
خلافًا للنشر في الجديد، حيث رافقت كل قصة رسمة مختلفة لعابدي، تم اختيار رسمتين لتزيين ثلاثية ناطور، وهما تعكسان فضاء الذاكرة الفلسطينية التي تختلط فيها معًا أسس مجرّدة وعينية. على غلاف الكتاب تمّت طباعة تفصيل من رسمة تمّ إعدادها في الأصل لقصّة “يصغرون في العين.. يكبرون في اللد” (صورة 17).22 في الرسمة الأصلية يجري عرض ثلاث لاجئات، إحداهنّ تجلس وتحتضن برقّة رضيعًا أو أنها تحميه، وخلفها تقف شخصيتان نموذجيتان ملفوفتان تمامًا بعباءتيهما الثقيلتين على خلفية شمس مُدوّرة وخطّ من المباني الرمزية. في التفصيل الذي يحمله غلاف الكتاب جاء أنّ الصورة وكل ما تبقى منها هو قسم من الشخصية الجالسة وقسم من الشخصية الواقفة إلى اليسار وهي تطأطئ رأسها باتجاه الشخصية الجالسة تحتها. “وما نسينا” يقول العنوان، فيما الرسمة بشكلها الأصلي وأكثر منها التفصيل، يشيران إلى وعي لذاكرة مجرّدة غير مُموضعة في فضاء جغرافيّ محدّد.
في المقابل، فإنّ الرسمة الأخرى (الصورة 18) التي تم نشرها في المجلة إلى جانب قصّة “ما تبقى من حيفا“،23 تصف بتفصيل وبدقّة أقسامًا من مدينة حيفا. هذه القصّة تتطرّق إلى مكان وزمان محدّدين، حيفا و22 نيسان 1948، تاريخ التهجير من هذه المدينة، وبناءً على ذلك فإنّ القصة والرسمة مرسّختان في زمن وفضاء كمعلم بيوغرافي، شخصي وجماعي في تاريخ سكان حيفا الفلسطينيين.
تتكرّر هذه الرسمة في الكتاب مقابل كلّ واحد من عناوين القصص القصيرة وتتحول من خلال ذلك إلى “لوغو“. كذلك، فهي تربط السيرة الذاتية لعابدي المولود في حيفا بمسار ترحال رمزيّ: من حيفا إلى اللد، من حيفا إلى الرملة، من حيفا إلى يافا وغيرها وغيرها. فضاء من الذاكرة الجغرافية، أسماء مواقع، تفاصيل دقيقة لشوارع، مصالح تجارية وأسماء أشخاص على محور زمن النكبة الفلسطينيّة.
هذه “الرسمة النموذجية” تلخّص إلى حدّ بعيد أيقونوغرافيّة النكبة التي طوّرها عابدي على مرّ السنين. وهي مؤلّفة كبنية ثلاثية: من اليسار رُسمت شخصيات عديدة كبقع سوداء أو كسرب بشريّ يحاول الخروج إلى ميناء حيفا باكتظاظ؛ في المركز رسمة بورتريه لوالد الرسّام، قاسم عابدي الذي يعتمر قبّعة عمّال بسيطة، وخلفه الحيّ الذي وُلد فيه، “حارة الكنايس“، بكنائسها، المسجد، الساعة وبيت العائلة؛ وإلى اليمين خرائب البلدة القديمة من حيفا.
ناطور يصف في كتابه:
يمشي الشيخ المشقق الوجه الذي نتحدّث عنه، جنباً إلى جنب مع سنوات هذا القرن. […] نقول حرب النكبة يقول كان عمري 48 ويضيف: “بلغتها يوم ما كان مدفعهم على البرج، وضربوا قنبلة فيها كبريت أصفر على الساعه قرب مسجد الجريني، فسقطت الساعة، قلت: “سقطت الساعة، سقط الوطن“.
حيفا لم تمسح من خريطه هذا الوطن.. لكن معالمها تتغير وتتبدل، […] أهالي حيفا القديمة، كانوا فقراء، حجارة وصيادين سمك.. كانوا يقلعوا الحجار من وادي رشميا ويبيعوها، وبعدين لما جاء الانجليز، ووسعوا البور (الميناء) صارت العالم تشتغل في البور.. رفعت كان صياد ماهر، “فش منه وقدام” كان عنده حمار أسود، يوقف على ظهر الحمار، ويمد نظره للبحر، كان يشوف أفواج السمك جاي، يرمي شبكته، ما تفلت منه ولا سمكة.. راحت الايام واجت الايام، وهالبحر صار يجيب ناس ويقذف ناس، “ولانشات” دار أبو زيد تحمل هالعرب..
لوين؟ لمينا عكا
لوين؟ لمينا بيروت..
لوين؟ لمينا صيدا..
لوين لجهنم الحمرا..”
… (ناطور، 1982)24
قصّة “ما تبقّى من حيفا” تستند إلى حدّ ما على قصة عائلة عابدي. رفعت الصياد، مثلا، هو عمّ والده. كتاب ديب عابدي (شقيق عبد) خواطر زمنية، الذي صدر عام 1993 بعد وفاة مؤلفه، يسرد بالتفصيل سيرة حياة العائلة. جُمعت في الكتاب قصص قصيرة كتبها الشقيق لجريدة “الاتحاد“، ومنها قصة خروج جد العائلة من حيفا في نيسان 1948. الرسمة على غلاف الكتاب (الصورة 19) تصف الخروج من حيفا.25 الصور في الرسمة منظّمة في منظورِ صليب: المستوى الأفقيّ مؤلّف من بيوت المدينة التي تصل حتى سطح ماء الميناء، بينما المستوى العمودي يرتفع من قارب الصيادين وفوقه شخصيات مرسومة بخطوط ثخينة. الشخصيات الثلاث في مقدّمة الرسمة تبدو بالتفصيل: امرأة تحتضن صرّة ملتصقة بجسدها، رجل مسنّ وبجانبه طفل صغير يتمسّك به بقوّة. وهكذا يروي ديب عابدي:
وكان الرحيل من حيفا إلى عكا بحرًا، في زحافات بريطانية.
في شهر نيسان، كان البحر عاصفًا على غير عادته في مثل هذا الوقت، والموج العالي يكاد يأخذنا إلى الأعماق، لنغوص عميقًا عميقًا إلى قاع البحر، كان جدّي عبد الرحيم واقفًا منتصبًا كأنّه يتحدّى الموج والأشياء، ينظر إلى حيفا وهي تودعنا ونحن نودعها، لأوّل مرة يودعها، ولأول مرّة تودعه. وهي تبتعد عتا شيئًا فشيئًا، وجدي عبد الرحيم ينظر إلى الشاطئ الممتدّ من حيفا إلى عكا، كانت عجلات العربة التي تجرّها الخيول تغوص في رطوبة الرمل.
رحلة زمنية قصيرة ثمّ نعود، هكذا قال جدّي عبد الرحيم وكنت صغيرًا لا أتعدّى الثامنة من عمري، وكنت أخاف من العتمة. وأخاف البحر، لأوّل مرة في حياتي مبحرًا إلى عالم مجهول – مجهول.
من المطحنة الكبرى يطلقون الرصاص وكأنها زخات مطر وجدتي فاطمة القلعاوي تخبئنا في حضنها وهي تتلو آية الكرسي بانتظام، ونحن لا نجرؤ أن نرفع رؤوسنا إلى الأعلى، وبقينا هكذا إلى أن ابتعدنا عن الشاطئ، إلى أعماق البحر. واقتربنا من عكا.
وفي عكا مكثنا أسبوعين، اختنقت أسوار عكا بالنازحين واختنق النازحون في زحمة المهاجرين الذين هرعوا برًا وبحرًا إلى داخل الأسوار، ولم يمضِ وقت طويل، سقطت عكا. وكان الرحيب برًا وبحرًا.
ركبنا السفينة ليلا، وأبحرنا عميقًا عميقًا إلى عالم الغربة من حيفا إلى عكا. كانت بداية السفر.. وسفر.. وسفر.
(ديب عابدي، 1991).26
الراوي، طفل يخاف الظلام والبحر، ينتظر عمليًا مخلصًا يخلّصه من معاناته. انتظار الخلاص من أغرق في البحر معروف لعبد عابدي من قصص الخضر التي روتها له أمه وهو طفل. شخصية الخضر تظهر أيضًا في قصة سلمان ناطور “ما تبقى من حيفا“: خلال زيارته مغارة الخضر (مار جريس أو إلياهو)، بعد أن أكلوا وشربوا، يدخل الزوّار إلى البحر، معطّرين بعض الشيء، ويبدأون بالغرق. يكتب ناطور: “ والختيارية يا حرام صاروا يتدعّوا: دخلك يا خضر، أطلعهم يا خضر!!”، وفجأة، يظهر شخص على قارب في قلب البحر، لكنه يختفي كفص ملح ذاب، وينجو الزوار جميعًا من الغرق.
شخصية المخلص، المسيح، الخضر، النبي الياهو، مار جريس – تظهر في العديد من أعمال عابدي. سبق أن توقّفنا عند عملين من مجموعة الطباعات عام 1973. بعد ذلك بستّ سنوات، في رسمة عام 1973 (الصورة 20)، يعود مجددًا إلى المخلّص، ولكن هذه المرة كشخصية مقتضبة تذكر طيّات ثوبها بالقدّيسين في الأيقونات البيزنطية. تحلق الشخصية بيدين منبسطتين فوق القرية، ولكن كل ما بوسعها إحضاره للاجئين هو العزاء وليس الحماية والخلاص الحقيقيين؛ إنّها شخصية ميثولوجيّة، دينيّة وشعبيّة، مفصولة عن أرضها وعن مصدر قوّتها.
في المقابل، فإن الشيخ مشقّق الوجه الذي يروي قصص “وما نسينا“، والذي يظهر أيضًا في معظم الرسومات التي رافقت القصص في “الجديد“، يمثل شخصًا من لحم ودم. وعلى الرغم من ذلك، فهناك توتر بين النص الذي يقوم الشيخ مشقق الوجه فيه بدور الراوي، الذي يتذكّر أحداث النكبة بتفاصيلها (أسماء الأشخاص، الأزمنة والأمكنة)، وبين كونية الرسمة التي تتجسّد بوجه المسنّ ثلاثي البنية ووجوه سائر الشخصيات في سلسلة الرسومات.
الرسمة المرافقة لقصّة “من البئر حتى جامع الرملة“27 (الصورة 21), مثلا، تمزج ما بين رموز دينية واضحة وما بين المعاناة الواقعية بجوهرها. المسنّ المشقق الوجه والمتألم يظهر هنا في وضعيات صَلب كضحية أو كمَن يدافع عن المتفجّعات اللاتي يقفن خلفه وتحتهنّ جثة ميّت ملفوفة بكفن فوق مسطح خشبي. يروي ناطور هنا قصة القنبلة التي انفجرت في مركز سوق الأربعاء في مدينة الرملة في آذار 1948 وقتلت العديدين ممّن كانوا هناك. وهو يصف الفوضى التي عمّت على أثر الانفجار والجثث الكثيرة التي تمدّدت بين بسطات السوق وصناديق الفاكهة والخضار. الدمج ما بين مشهد التفجع على خلفية عدد من المباني والرسمة الموجزة لمئذنة الجامع تشحن الحدث برمزية تتجاوز الزمان والمكان. على الرغم من إبراز كلمة “رملة” المنسجمة بخط مزركش داخل المنظومة المعمارية في الخلفية، فإن الجثة الممددة بوجهها المخفي هي ضحية عينية وكونية في آن واحد.
في رسومات أخرى يتكرر التوتر الجدلي بين النص المفصل والرسمة الرمزية. ففي الرسمة التي ترافق قصة “مثل هالصبر في عيلبون“28 (الصورة 22) تظهر شخصية ميّتة ترقد على الأرض تحت شجرة عارية وامرأة تلامس بيد مترددة وجه الميت. من الخلف، يجلس عدد من النساء اللواتي يغطّين وجوههن براحاتهنّ بذهول. الشخصيات مموضعة في الخلاء، بعيدًا عن البلدة التي تظهر محاذية لخط الأفق، وعن مصدر لتلقّي المساعدة. تبدأ القصّة بوصف طويل للطريق الترابية التي تقود إلى عيلبون، حقول وجبال في الجوار والتوتر بين فلسطينية شابة وأولادها وبين جندي إسرائيلي يرافقهم بشاحنة في طريقها من عيلبون إلى طبريا. بعدها، تروي القصة حدث المجزرة في عيلبون، وفاة عازر، وهو رجل فقير يحبه الأطفال قُتل حين كان يتكئ على باب الكنيسة، ووفاة سمعان الشوفاني، شماس الكنيسة المارونية، الذي بقيت جثته تحت قبة السماء لمدة ثلاثة أيام.
في قصة “مصيدة في خبيزة“،29 يصف الشيخ مشقق الوجه سيرة حياة راعٍ وجد نفسه في حقل للألغام في قرية خبيزة في وادي عارة، تدمير القرية وتسويتها بالأرض، كفاح السكان للعودة إلى أراضيهم بعد الإعلان عنها منطقة عسكرية مغلقة ومحاكمة أحد سكان القرية بتهمة اجتياز الحدود. لاحقًا، يصف المذبحة في خبيزة، التي تم خلالها أخذ 25 رجلا من القرية، إجبارهم على الركوع أمام أشجار الصبار وقتلهم بالرصاص أمام أعين الأطفال والنساء. الراوي يتوقف عند تفاصيل قصة أحد الضحايا، وهو طفل وحيد لوالده داود أبو صياح الذي طلب من الجنود استبداله بابنه. الجنود رفضوا طلبه وأطلقوا النار على الابن، ففقد الوالد عقله وظل طوال السنين يرى وجه ولده بين وجوه جميع أطفال القرية.
الصور الثلاث التي ترافق القصة لا تصف القتل والفظائع، بل نظرات أهل القرية المصدومين الذين يشاهدون الفظائع. على الصفحة الأولى للقصة (الصورة 23) تظهر مجموعة نساء متفجعات مغطيات الرؤوس، إحداهن تطأطئ رأسها نحو طفل صغير يعانق خصرها. في هذا العمل يعود عابدي إلى عنصر الدائرة، التي تبدو هذه المرة كتفصيل تم تكبيره بعدسة مكبرة أو كصورة مقرّبة لنساء يبكين، يصرخن. في الرسمة الضيقة والمطوّلة التي تظهر في القصة، يظهر رجال منتصبو القامة عاقدو الحاجبين، عيونهم كبيرة ومحدّقة وراحات أيديهم كبيرة (الصورة 24). الصورة الثالثة (صورة 25)، حفر أفقي على الخشب تمت طباعته على الجزء السفلي من الصفحة 24. وهي تعرض شخصيات أذهلها الحزن خلف سور خشبي وأسلاك شائكة.
سيرة نصب تذكاري
جاء يوم الأرض الأوّل في 30.03.1970 احتجاجًا على قرار الحكومة مصادرة 20 ألف دونم في منطقة سخنين لغرض “تهويد الجليل“. قادة الحزب الشيوعي ورؤساء السلطات المحلية في الجليل دعوا إلى إضراب عام ومظاهرات احتجاج في 30 آذار. جرت المظاهرات أساسًا في قرى سخنين، عرابة ودير حنا. خلال المظاهرات وقعت مواجهات بين قوى الجيش الإسرائيلي وبين المتظاهرين، وقتل خلالها ستة مواطنين وجُرح العديدين.
في أواسط السبعينيات اشتدّت حدّة الكفاح والخطاب حول الأراضي ومصادرتها لدى الأقليّة العربية منذ عام 1948. وتناول عبد عابدي هذه المسألة للمرة الأولى من خلال ملصق صمّمه تحضيرًا للمؤتمر الشعبيّ القطريّ للدفاع عن الأراضي والذي انعقد يوم السبت 17 تشرين الأوّل 1975 في سينما في الناصرة. كان شعار الحدث “لإنقاذ البقية الباقية من الأرض ناضلوا ضد المصادرة كي لا تضيع البقيّة” (الصورة 26). التصميم الدراماتيكي للنصّ بالأحمر والأبيض على خلفية سوداء تمّ وفقًا لموروث الملصقات الاشتراكية بامتياز. في مركز الملصق طُبع داخل إطار أبيض رفيع مونتاج لحفر على الخشب من العام 1971، وهو يعرض مجموعة من الأشخاص الذين يرفعون قبضاتهم المكوّرة. المجموعة الموحّدة التي كأنما تنبثق من الهامش الأيسر للحفر الخشبيّ وتغطّي نحو ثلاثة أرباع مساحته، تتحرّك نحو اليمين على خلفية تخطيطات مجرّدة (نُشر العمل الأصلي في “الاتحاد” بتاريخ 7.10.1971). في هذا الملصق، نسَبَ عابدي احتجاج الجمهور إلى مسألة الأراضي حين وضع بأيدي عدد منهم أدوات زراعية – شواعيب وفؤوس – لم تكن تظهر في العمل الأصلي.
عام 1977، بعد أحداث يوم الأرض بسنة، قرّرت سكرتاريا لجنة الدفاع عن الأراضي، برئاسة صليبا خميس، إقامة نصب تذكاري يُخلّد اليوم وضحاياه.30 الاجتماع الذي اتّخذ فيه القرار عُقد في بيت رئيس مجلس كفر مندا محمد زيدان وقد جاء بالاتفاق مع رئيس مجلس سخنين جمال طربيه. في ذلك الاجتماع تقرّر، أيضًا، التوجّه إلى عبد عابدي لكي يأخذ المهمّة على عاتقه.
بعد توجّه اللجنة إلى عابدي، اقترح على صديقه القديم غرشون كنيسبل،31 الذي كان ذا تجربة هامة في تصميم النصب التذكارية، أن يشاركه العمل على المشروع. فبلورا معًا الإطار الفكري–البصري للنصب التذكاري وتوجّها للعمل على التخطيطات التحضيرية، والتي ضمّت أربع منها مجموعة النصب التذكاري (الصور 27-30) التي صدرت عام 1978، بعد إقامته.32
بعد أشهر قليلة على التوجّه إليهما، عرضا بتاريخ 30.3.1977، في الذكرى الأولى ليوم الأرض، في مظاهرة حاشدة نموذج النصب التذكاري للجنة رؤساء السلطات المحلية في الجليل (الصورة 31). النموذج (90X60X30 سنتيمتر) مؤلّف من قاعدتين منفصلتين: ما يشبه التابوت المؤلّف من لوحات ألومينيوم تعكس سلسلة من القصص التي تنتقل من شخصيات نساء يفلحنَ أرض الوطن، إلى متفجّعات وفي النهاية الجثمان؛ وتمثال حرّ لمحراث على قاعدة منفصلة (الصورة 32).
في الأسبوع الأخير من آذار 1978، تمّ البدء بتشييد النصب التذكاري في مقبرة سخنين، انطلاقًا من أنّ موقعه سيوفر له الحماية أمام اعتداءات قوى الأمن الإسرائيلية التي ستمتنع عن الدخول إلى المقبرة. في البدء تمّ صبّ قاعدة باطونية (الصور 33-36). في صبّ الباطون الذي استمرّ لساعات شارك الكثير من العمّال من سخنين. خلال إقامته اعتقلت الشرطة رئيس مجلس سخنين جمال طربيه بزعم البناء غير المرخّص، لكنها أطلقت سراحه بعد مرور عدّة ساعات.33
يوم الخميس، 30.3.1978، عُقد احتفال الكشف عن النصب التذكاري. منذ ذلك الحين، في كلّ 30 آذار، يتحوّل النصب التذكاري إلى مركز مراسيم ذكرى أحداث يوم الأرض في الجليل. من جهة، تعكس هذه الطقوس المكانة المؤسّسة ليوم الأرض في الثقافة الوطنية الفلسطينية، ومن جهة أخرى، تشكّل منبرًا لنضالات سياسيّة، اجتماعية وثقافية مختلفة تطرأ من فترة إلى أخرى. من ناحية تاريخية، اختتم العام 1976 عقدًا من السنين فقط على انتهاء فترة الحكم العسكري. ولكن، كما سيتّضح، لم يؤدّ انتهاء الحكم العسكري إلى انتهاء ما يمكن تسميته “احتلال وقمع داخليين” بحقّ السكان العرب في إسرائيل، أو انتهاء التمييز ضدّهم. لكن على الرغم من ذلك، فإن يوم الأرض كان الحدث الشعبي الأول الذي نضجت فيه الظروف لخلق إشارة ثابتة في الفضاء الجماهيري كمكان للاجتماع، الحداد، التخليد والذكرى. هذا المكان بات “موقع ذكرى” بالمفهوم الذي وضعه بيرر نوريه.34 إنّه موقع لتذكير الأفراد والجمهور بأحداث الماضي، الإشارة إلى معانيه وخلق مصدر ديناميّ يمنحهم شرعية. وبوصفه “موقع ذكرى“، فهو يواصل العيش في مراسم تجري فيه كل سنة وفي صور الصحافة وتغطيتها التي توثّقه.35 (الصور 39- 37).
وصف النصب التذكاري
صمّم كنيسبل وعابدي ما يشبه تابوتًا ذا أربعة أوجه مغطاة بمنحوتات ألومينيوم تؤكّد العلاقة بين الأقلية الفلسطينية وأرضها (الصورة 40). منحوتات الألومينيوم معمولة بحيث أنها تظهر على شكل صلصال.
على الوجه الأول (الصورة 41) تظهر امرأة منحنية تحتضن جرّة كبيرة وامرأتان منحنيات، إحداهنّ تحمل منجلا تحصد به والثانية تبذر الحبوب. تحت المرأة التي تزرع، من الجهة اليمنى التحتى، كُتب بالإنجليزية، العربية والعبرية “صمّمه عبد عابدي وغرشون كنيسبل لتعميق التفاهم بين الشعبين“؛ على الوجه الثاني (الصورة 42)، نُحتت امرأة منحنية تحفن بيسراها الحبوب وتنثرها بيمينها.36 وعلى لوح منفصل، بين المرأة وبين طرف الصورة التي تبدأ بالوجه الجانبي، كُتب بالعبرية والإنجليزية “لذكرى شهداء يوم الأرض 30.3.1976″؛ على الوجه الثالث (الصورة 43) نُحت بروفيل لامرأتين متفجّعتين تركعان على ركبتيهما وتغطيان وجهيهما براحتي يديهما.37 بين المرأتين كُتب بالعربية “استشهدوا لنحيا.. فهم أحياء – شهداء يوم الدفاع عن الأرض 30.3.1976″ وتحتها سُجّلت أسماء القتلى وبلداتهم: خير محمد ياسين من عرابة، رجا حسين أبو ريا، خضر عبد خلايلة وخديجة شواهنة من سخنين، محمد يوسف طه من كفر كنا ورأفت الزهيري من نور شمس، الذي أطلقت عليه النار في الطيبة. في الجهة اليسرى من هذا الوجه، والذي تنظر نحوه النساء، تطلّ شخصية جنينية مجرّدة من خلال اللوح وترسل يدها إلى الأمام بحركة تتراوح بين التمسك بشيء وبين طلب المساعدة؛ الوجه الرابع (الصورة 44) تستكمل صورة التابوت من خلال عرضها شخصيتين تبدوان كجثّتين وُضعت الواحدة على الأخرى بمنظور أفقيّ وهادئ. معالجة هذا الوجه بأكمله يذكّر كثيرًا بفنّ التخليد السوفييتي. أخيرًا، بشكل منفصل عن هذا الجزء من النصب التذكاريّ، هناك تمثال لمحراث حرّ على قاعدة مستقلّة: حين يُقتل من يفلحون الأرض يظلّ المحراث يتيمًا ومكسورًا (الصورة 45). مقابض المحراث ومحوره منحوتة بزاوية 45 درجة للأعلى، وتظهر من نقطة رؤية معيّنة كأطراف مقطوعة مرفوعة للأعلى صارخة ومحتجّة نحو السماء. في هذا التمثال، هناك تشديد خاصّ على تصميم الصلصال الذي يُضفي على التمثال منظرًا عضويًا يَجمع بين الصدأ النحاسيّ والأثريّ.
بشكل تعميميّ، يمكن القول إنّ النساء ممثّلات في جميع أقسام النصب التذكاري كمن يفلحنَ الأرض ويرمزنَ إلى التفجّع والحداد. اختيار التمحور في شخصيات نساء كانت نتيجة قرار مشترك لعابدي وكنيسبل، اللذين يخصّصان مكانًا مركزيًا لشخصيات النساء في أعمالهما الأخرى، أيضًا. في جميع الأحوال، هذا الاختيار مناقض تمامًا لتمحور صحف تلك الفترة في شخصية الفلاح، الرجل (يُنظر، مثلاً: الصورة 46)، وهذا على الرغم من أنّها ترتبط بفكرة “أمّنا الأرض” في الأدب العربي الحديث وكذلك في الفنّ الفلسطيني.38 لكنّ أعمال الأرض لدى عابدي وكنيسبل تختلف تمامًا عن صور نساء القرية المشتقّة من هذه الفكرة في أعمال إسماعيل شمّوط، مثلا. تمثيلهنّ هناك يؤكّد على كونهنّ “بروليتاريا“، نساء عاملات، مجتهدات وملتزمات وليس صورًا استعارية مثالية ونموذجية.
الانطباع العام الذي يثيره النصب التذكاريّ بجزئيه هو امتزاج المحلّي العيني بما يفوق المحليّ، الكوني. إلى جانب التخليد والتشديد على بعد الشراكة اليهودية–العربية الذي رفع الحزب الشيوعي رايته، فإن النصب التذكاري يمثّل توجّهًا واقعيًا اجتماعيًا وكذلك واقعيًا اشتراكيًا. إنّ عمل عبد عابدي وغرشون كنيسبل المشترك يؤكّد على الارتباط بالأرض وكذلك على الدعوة إلى العدل الكوني. هذا التشديد يتجسّد في النصوص التي كتبت خصيصًا للمجموعة (كتالوج) عن النصب التذكاري بقلم سميح القاسم ويهوشوع سوبول والنصوص التي كتبها الفنّانان عابدي وكنيسبل.
في نصّه ضمن المجموعة، يكتب عابدي:
وخلال هذه المسيرة الإنسانية وتعاقب الأجيال فقد تصبح هذه الأدوات رموزًا وتعابير لعالم مضى وغاب في مطاوي الزمن، لكنه لما يُمحَ. وتتعاقب الأجيال في كلّ المراحل تاركة الذكرى ومتشبّثة بالحاضر، هذا الحاضر الذي لمسته في انتصابة النخلة وعمق جذور الصبّار وشموخ الجامع المهجور وأجراس الكنيسة الذي حال الصدأ دون أن تردّ الصدى مع تموّجات الحزن عبر الأجواء. هذا التعاقب في التاريخ غير البعيد الذي لمست جروحه في نتوءات الحجارة المبنية المنتصبة أمام جرافات الحضارة وذقت ملوحتها المصبوبة على الجباه السمر، هذا العرق الذي تحوّل عبر التاريخ المشحون بالمرارة إلى دموع غزيرة انهمرت على شواهد القبور التي تحوّلت إلى نُصب في سخنين وكفرقاسم والطنطورة ودير ياسين. وقد يكون هذا النصب الذي أقمناه في سخنين هو الشهادة والقسَم للانتماء الأبدي لهذه الأرض التي استصرخت أبناءها للدفاع عن أمّهم الأرض.39
إلى جانب نصوص عابدي وكنيسبل بالعربية، هناك جزء من صورة لغدعون غيتاي، والدة مغطاّة الرأس وترتدي فستانًا ريفيًا مورّدًا وتجمل رضيعًا في حين يحيط أطفالها بها على أنقاض بيتهم المهدوم (الصورة 47). من ناحية بصرية، تذكر هذه الصورة، أيضًا، بهدم البيوت في مخيّمات اللاجئين وهي بذلك تربط، بصريًا، مصير عرب 1948 بمصير إخوتهم خارج إسرائيل. من هنا، فبالنسبة إلى عابدي النصب التذكاري في سخنين هو محطّة ضمن سلسلة “شواهد تحوّلت إلى نصب تذكارية في سخنين، كفر قاسم، الطنطورة ودير ياسين“. هذه السلسلة تعكس استمرار النكبة الفلسطينية من خلال عرق ودموع ضحاياها.
ظهرت هذه الصورة في العام 1980 على ملصق شهير صمّمه عابدي، لإحياء الذكرى الرابعة ليوم الأرض. تمّ في هذا الملصق استبدال شعار الكفاح الذي تمحور في إنقاذ “ما تبقّى” بدعوة التحدّي “هنا باقون” (الصورة 48). في القسم السفلي من هذا الملصق، تظهر صورة لرجل يرفع يده الممسكة بحزمة من الأسلاك الشائكة المقطوعة. فوق السلك الشائك العلوي تمّ وضع صورة لأمّ مُحاطة بأولادها فوق أنقاض بيتهم.
عنوان الملصق مماثل لعنوان قصيدة توفيق زياد “هنا باقون“، 40 وممّا تقوله: “هنا .. على صدوركم باقون كالجدار نجوع نعْرى، نتحدّى“.41 العودة إلى عنوان القصيدة والإشارة إلى مضامينها ليس صدفة، لأن هذه القصيدة تعتبر أحد التعابير الهامة في أدب المقاومة الذي طوّره عرب 1948 (م. ن.: 80). كذلك، فإن القصيدة وعنوانها يرتبطان مباشرة بالذاكرة الجماعية الفلسطينية بكونها تعبّر بلغة لا تقبل التأويل عن فكرة “الصمود” والعلاقة العميقة بأرض الوطن على الرغم من النكبة، وما بعدها.
الخاتمة
عام 2008 كان عابدي أوّل الفنانين العرب ممّن يعيشون في إسرائيل الذي فاز بجائزة وزير العلوم، الرياضة والثقافة إلى جانب ستّة فنّانين آخرين، جميعهم يهود وأصغر منه. أي أنه كان الفنان العربي الأول الذي حظي باعتراف واضح من التيار المركزي في الثقافة الإسرائيلية. ردًا على سؤال لصحفيّة بخصوص الانفعال الذي أثاره هذا الحدث في الإعلام الاسرائيلي قال عابدي: “إذا كنت حقًا الفنان العربي الأول، فإنّ هذا لا يشكل إطراء لي ولا لسنوات إقامة الدولة الـ 60″42. فعلا، يبدو أن عابدي لخّص بذلك بإخلاص توجّه الدولة والمؤسسة الفنية الإسرائيلية نحو الإبداع الفني الفلسطيني في مناطق الخط الأخضر. عابدي، الفنان المثمر والرائد في العديد من المفاهيم في حقل الفن الفلسطيني، اضطرّ أن ينتظر حتى عامه السادس والستين كي يحظى باعترافٍ كهذا.
هذا الفنان الهام، الذي قارنت لجنة الجائزة أعماله الكبيرة بأعمال ناحوم غوطمان، نذر نفسه منذ نحو خمسين عامًا لعمل فنّي غنيّ في مختلف المجالات: رسم، جداريات، تخطيط، طباعة، نحت، تصميم غرافيّ وتصميم نصب تذكاريّة. مع ذلك، فقد اخترت التركيز على اثنين من تعابيره الفنية العديدة – “فن الطباعة” والنصب التذكاري ليوم الأرض في سخنين. هذا الاختيار يأتي بعد الانكشاف على الجمهور الفلسطيني الواسع ودور التعبيرين المذكورين كـ “موقع ذكرى” وما يشبه “متحف فلسطيني“، وبالطبع مساهمتهما في تطوير مفهوم النكبة، وصف اللاجئين والنضال على الأرض في الذاكرة الوطنية الجماعية للأقليّة العربية في إسرائيل.
1 النصب التذكاري في سخنين كان في مركز المعرض: “قصّة النصب التذكاري: يوم الأرض في سخنين 1976-2006” (قيّمة المعرض: طال بن تسفي). للتوسّع حول المعرض يُنظر:
גיש עמית, “אתם תקימו ואנחנו נהרוס: אמנות כחפירת הצלה“, סדק 2 (2008): 117-119 وموقع المعرض في www.hagar-gallery.com. وكتالوج المعرض: طال بن تسفي، شادي خليلية، جعفر فرح (محرّرون)، 2008. يوم الأرض: التاريخ، النضال والنصب التذكاري، إصدار مركز مساواة، حيفا.
2 في هذا السياق، أشار أ. نيف إلى تجاهل الصحافة اليوميّة بالعبريّة لفوز عابدي “الفنّان العربيّ الأوّل الفائز بجائزة في بلاده وطنه“، جائزة هرمان شتروك (أ. نيف، 11 تموز، 1973).
3 يُنظر: Martha Kearns, Käthe Kollwitz: Woman and Artist (New York: Feminist Press, 1976): 69.
4 גילה, בלס, 1998. “האמנים ויצירותיהם“, ריאליזם חברתי בשנות החמישים, מוזיאון חיפה לאמנות, עמ‘ 15-32
5 Ziva Amishai-Maisels, 1993. Depiction and interpretation: the influence of the Holocaust on the visual arts, Oxford : Pergamon Press, 382.
6 في إحدى محادثاتي معه، أشار الفنان إلى أنّ ارتباطه بليئا غروندغ كان على خلفية رهافة الحسّ التي أبدتها نحو موضوع الحرب وانعدام العدالة الاجتماعية، أيضًا، بفعل انتمائها إلى الأقلية اليهودية التي عانت كثيرًا في الفترة النازية (محادثة مع عابدي، 19 آذار 2007).
7 يُنظر: Paula Stern, ”Portrait of the Artist (Palestinian) as a Political Man” في: http://www.aliciapatterson.org/APF001970/Stern/Stern11/Stern11.html.
8 ناجي العلي عمل رسام كاريكاتير في صحف لبنانية وفي دول الخليج بين السنوات 1957 و 1983. في حزيران 1987 حين كان ماشيًا نحو مكتب الصحيفة في لندن تمّ اغتياله برصاص أطلق من سيّارة. وقد توفّي بعد ذلك بشهر. في الشهر نفسه اندلعت الانتفاضة في الضفّة الغربيّة.
9 للتوسّع حول الفنانين، يُنظر: טל בן צבי, חנא פרח, (עורכים), 2009. גברים בשמש, מוזיאון הרצליה לאמנות עכשווית.
10 (ج. بلاص 1998: 8).
11 بالإضافة إلى عابدي، شارك في حوار الفنانين أفشلوم عوكشي وغرشون كنيسبل، الناقد الفني تسفي رفائيل، والمصمّم المعماري حاييم تيبون.
12 כמאל, בולאטה, 1990. “אמנים ישראלים ופלסטינים: מול היערות“, קו 10: 171.
13 إميل حبيبي (1921-1996), كاتب، صحفي ومن مؤسّسي الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي مثّله عدة مرّات في الكنيست، ترأس تحرير “الاتحاد” طوال 45 عامًا.
14 رسمة عابدي موجودة في كتاب إميل حبيبي، سداسية الأيام الستة، حيفا، إصدار الاتحاد، 1970.
15 בלס, שמעון, 1978. הספרות הערבית בצל המלחמה, עם עובד, תל אביב, 33-35.
16 (م. ن.).
17 رسومات عابدي موجودة في كتاب: إميل حبيبي، 1974، الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، إصدار “الاتحاد“، حيفا.
18 صورة مشابهة لجثّة ميت تتكرّر في أعمال عابدي، ويمكن ملاحظة تأثير كيتا كولفتش فيها. فمثلا، في الطباعة الأخيرة من مجموعة “تمرّد النسّاجين“ (1897) (الصورة 26) تصف كولفتش رجلين يحملان جثة إلى غرفة في تصفيحة تمّ وضع جثّتي عاملين فيها.
19 صيغة سابقة لأقوالي التالية ظهرت في كاتالوغ معرض “عبد عابدي: وما نسينا“، الذي كنت قيّمة له عام 2008 في ستوديو عبد عابدي في حيفا. يُنظر موقع المعرض: http://wa-ma-nasina.com/index.html
20 يُنظر: سلمان ناطور, זיכרון, بيت لحم، اصدار بديل, 2007.
21 Walid Khalidi, 1992. All That Remains. The Palestinian villages Occupied and Depopulated by Israel in 1948. Washington.
22 سلمان ناطور, 1981. “يصغرون في العين.. يكبرون في اللد“, وما نسينا، الجديد تشرين الثاني.
23 سلمان ناطور, 1980. “ما تبقى من حيفا“, وما نسينا، الجديد كانون الأول.
24 قصة “ما تبقى من حيفا” نشرت بالعبرية والإنجليزية في كتيّب ذاكرات حيفا، إصدار جمعية ذاكرات، 2004.
25 عام 1996, عاد عابدي الى هذه الرسمة وأنتج لوحة “الخروج من حيفا” التي يضع والده فيها كموديل للوحة المحدّثة. بعد سنة على ذلك توفي والده.
26 ديب عابدي، خواطر زمنية، 1991، إصدار الاتحاد، حيفا، نُشر للمرة الأولى في الاتحاد، 27 نيسان.
27 سلمان ناطور, 1981. “من البئر حتى جامع الرملة“, وما نسينا، الجديد، تشرين الثاني.
28 سلمان ناطور, 1981. “مثل هالصبر في عيلبون“, وما نسينا، الجديد، أذار..
29 سلمان ناطور, 1981. “مصيدة في خبيزة“, وما نسينا، الجديد، حزيران.
30 أهمية النصب التذكارية ومواقع التخليد، يتناولها يسرائيل غرشوني الذي يشير إلى أنّ موقع التخليد هو أشبه بمساحة ذكرى من النوع الذي تحدّث عنه بيير نوريه. كما يقول، إضافة إلى كونه ممارسة لمرّة واحدة، أو عرفًا مكرّرًا، فالتخليد هو سيرورة دينامية. مع ذلك، فالفعل العينيّ لإقامة موقع التخليد يخلق “لحظة من حفظ الذاكرة الجماعية“، وهي معرّفة ومميّزة من ناحية تاريخية (גרשוני, 2006: 26). بخصوص تمثيل ماضي هؤلاء، يشير موشيه تسوكرمان إلى أنّ وقوع الحدث التاريخي في الماضي مرّة واحدة، هو مطلق وغير قابل للإحياء. لذلك، فإنّ تمثيل الحدث التاريخي هو بديل يحاول وعي الحاضر بواسطته اختراق وعي الماضي. ويقول إنّ “هذه التمثيلات والعناصر تتفاعل كشيفرات: إنّها تحتوي على تفاصيل الوعي الجماعي المشفّرة، لكنها في الوقت نفسه تشكّل حلقة وصل للأسس التي غابت عن الوعي وتجمّعت في مخازن الذاكرة” (צוקרמן, 1993: 6-7). يُنظر بتوسّع:
: ישראל גרשוני, 2006. פירמידה לאומה: הנצחה, זיכרון ולאומיות במצרים במאה העשרים, עם עובד, תל אביב. משה צוקרמן, 1993. שואה בחדר האטום, הוצאת המחבר, תל אביב.
31 وُلد غرشون كنيسبل في كلن، ألمانيا عام 1932 وعاش في حيفا. عام 1954 أنهى دراسته في كلية بتسلئيل للفنون في القدس. مطلع الستينيات عاش في البرازيل لكنه عاد إلى إسرائيل على اثر الانقلاب العسكري هناك عام 1964. في الستينيات والسبعينيات عمل مستشارًا فنيًّا لرئيس بلدية حيفا. عام 1994 هاجر إلى سان باولو، البرازيل، حيث يعيش حتى اليوم. قدراته وتجربته الفنية الغنية إلى جانب علاقاته الواسعة، التي مكنت من صبّ النصب التذكاري ليوم الأرض في ورشة فنون تابعة لبلدية حيفا – جعلت مساهمته في إنشاء النصب التذكاري هامة جدًّا. في السبعينيات صمّم كنيسبل عددًا من النصب التذكاريّة: في قرية الشبيبة غليم (1970)، في حي أحوزا – حيفا (1974)، في حديقة هزكرون، حيفا (1975).
يُنظر:
: אסתר לוינגר, 1993. אנדרטות לנופלים בישראל, הוצאת הקיבוץ המאוחד, 31.
32 المجموعة من تصميم عبد عابدي صدرت قبل إنشاء النصب التذكاريّ بأشهر. إضافة إلى الرسومات التحضيرية الأربع، ضمّت صورًا للنصب، بعدسة مصوّر الاتحاد حينذاك عاموس غيتاي، ونصوصًا لسميح القاسم، يهوشوع سوبول إلى جانب عابدي وكنيسبل.
33 Sorek, Tamir, 2008. “Cautious Commemoration: Localism, communalism, and Nationalism in Palestinian Memorial Monument in Israel” in: Comparative Studies in Society and History 50 (2): p, 330.
34 Nora, Pierre, 1989. Les Lieux de Memoire, Paris: Gallimard.
35 تؤكد يعيل زروبفل أن التخليد هو مفهوم مركزي لفهم ديناميكية التغيير الحاصل في الذاكرة. الذاكرة الجماعية تستخدم أطرًا متنوعة من التخليد، حيث أنه من خلال مراسم إحياء الذكرى هذه تخلق المجموعات، تصلح، ترمم وتعمل، بسيرورات التفاوض، على ذاكرتها المشتركة من أحداث عينية ولحظات مؤسسة وفقًا لاحتياجات الحاضر المتغيرة. من هذه الناحية، التخليد العام ليس موقعًا أكثر منالية للبحث حول تشكل الذاكرة الجماعية، بل إنه يسمح أيضًا بتعقّب التحولات وأشكال النسخ التي تجري في الذاكرة الجماعية لدى مجموعة معينة خلال فترة زمنية. يُنظر بتوسّع:
Zerubavel, Yael, 1995. Recovered Roots: Collective Memory and the Making of Israeli National Traditio, Chicago: University of Chicago Press, p 4-13.
36 وجه هذه المرأة العريض، الذي يكاد يكون هنديًا أحمر، وجسدها الثقيل يذكر بشخصيات نساء في جدارية الفنانين المكسيكيين دييغو ريفيرا (Rivera) (1886-1957) وديفيد الفايرو سكويروس (Siqueiros) (1896-1974)، وقد التقى عابدي الأخير في درزدن – ألمانيا عام 1969.
37 يُلمس هنا تأثير النصب التذكاري “أهل مفجوعون” ” (1914-1932) للفنانة كولفيتش التي ثكلت ابنها بيتر في الحرب العالمية الأولى (وحفيدها، في الحرب العالمية الثانية). استغرقها 17 عامًا لتعدّ هذا النصب التذكاريّ لابنها، وفي العام 1932، تمّت إزالة الستارة عنه، في المقبرة العسكرية في فلندريا، حيث قتل ابنها ودفن. يظهر في النصب التذكاري، راكعَين مستغفرَين، الأم (بورتريه شخصي للفنانة) والأب (بورتريه كارل كولفيتش).
38 شخصية المرأة في القرية، كتمثيل للوطن الفلسطيني يشكل موضوعًا مركزيًا في الفن الفلسطيني من خمسينيات القرن العشرين وحتى اليوم. في إطار بحث حول فنانات فلسطينيات حاججت أنّ مركزية المرأة في الفن الفلسطيني السائد متأثّرة بالشكل الذي ترى فيه الحركات القومية وظائف الجندر. يُنظر بتوسّع، أطروحة الماجستير:
: טל בן צבי, 2004. בין לאום ומגדר – ייצוגי גוף האשה באמנות נשים פלסטינית, אוניברסיטת תל אביב.
بحث إضافي في كتالوج:
طال بن تسفي، 2006. هاجر – الفن فلسطيني المعاصر، إصدار جمعية هاجر؛ طال بن تسفي، 2006. سير ذاتية، 6 معارض شخصية في جاليري هاجر للفنون، إصدار جمعية هاجر؛ طال بن تسفي وياعيل ليرر (محررتان)، 2001. صور ذاتية – فن النساء الفلسطينيات، إصدار دار النشر أندلس.
39 عابدي، عبد, 1978. “أنصاب تذكارية للحاضر” في “قصّة النصب التذكاري: سخنين 1976-1978″ تحرير عبد عابدي وغرشون كنيسبل، إصدار عربسك، حيفا (كتالوج).
40 Naseer Aruri and Edmund Ghareeb (eds.), Enemy of the Sun: Poetry of Palestinian Resistance, Washington Drum Press, 1970, p. 66
41 (ש. בלס, 1978: 85)
42 يُنظر: ענת זהר, “זה לא מחמיא לי או למדינה“, בתוך