
امدیو مودیلیانی ، هذا الرسام الشاب والرقيق ، عرفناه من خلال لوحاته المطبوعة و « المبروزة ) في الكثير من البيوت والمتاحف العالمية ، لكننا لم نعرف موديلياني الانسان في الوجه الآخر من الصورة . هذا الانسان غاب عن الدنيا قبل ٥٧ عاما وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر ، وأخذ معه تعاستها بعد أن ترك للانسانية أجمل اللوحات والصور 
ولد امدیو مودیلیانی في مدينة ليفورنو الايطالية لاب تاجر . سافر الى باريس لدراسة
واعدا نفسه بأن يكون أمينا للموهبة التي من أجلها سافر . وفي بارس ، في حي مونمارتر الذي يسكنه رجال الفكر والفن ، تعرف على بيكاسو الاسباني ، وعاني مثله من الفقر والجوع . وكانت حياتهما في سنة ١٩.٦ شبيهة بحياة فئران الكنيسة .
في الوقت الذي خطا فيه بيكاسو هذه الفترة (( الوردية ) بقى موديلياني فقيرا معدما حتى يومه الأخير ..
وهنا قد تصدق النظريات والبديهيات التي تقول بأن الفنان لا بد أن يعيش حياة فقر ثم يغني بعد ان يترك العالم ، ويصبح من أصحاب الشهرة ، وتقفز أسعار لوحاته من ٥٠٠ فرانك – طالب بها الرسام عبثا – حتى ال .. نصف مليون فرانك للوحة الواحدة !
فاذا كانت لهذه النظرية « ارجل » فذلك لان ما يتحسسه الفنان خلال الالوان والاشكال المرئية يعلن عن فهمها… متأخرا والمهم أن مرحلة الانطباعية التي جاء عليها موديلياني في نهاية تقدمها .كانت تعاني من أزمات حادة خلال مسيرتها التي بدأت في نهاية القرن الماضى وكان عليها أن تنتهى مع بداية القرن الحالي . وتوجب على منتهجى حركة الانطباعية والمتحمسين للتجديد ، أن يتقبلوا مرغمين السبل والمناخ الاجتماعي التي فرضتها انظمة داية العصر الذي كان يحمل معه أزمات وعلاقات اجتماعية مغايرة للمجتمعات السابقة الأخرى
وانعكست هذه الازمات في علاقة الفنان بجمهوره ومجتمعه ، فمأساة فان كوخ » الذاتية هي نتاج واضح لازمة المجتمع البرجوازي الذي عجز عن تقبل ( نقاوة الروح » لاعمال فان كوخ » . وبالتالي فان هروب غوغان الى جزر هاييتي باحثا عن الدفء والقيم الخلقية المعقمة ) ناتج
عن عدم الاقرار و ( الانصياع ) لما يسود العالم من ويلات واستغلال الانسان لاخيه الانسان . وكذلك عن عدم استيعاب الفنان لهذا العالم المحيط به ، عالم تبادل السلع والمبيع والشراء. و « سیزان ) ، الرسام الخالد ، الذي انطوى على نفسه معلنا نمرده على هذا العالم ، والذي واصل
التمعن في تلال سانتا فيكتوريا مؤكدا وواعدا العالم بأن يبقى يرسم حتى يومه الأخير – كما كتب لاصدقائه – هو برهان صادق علی تلك الهوة التي جعلت من الفنان قضية .. وضحية عصره حتى الان 

موديلياني .. فترة جديدة بأسلوب جديد
كان موت الرسام سيزان ( ١٩٠٦ ) في بداية هذا القرن في الواقع انتهاء فترة الانطباعية لكنه كان بداية فترة جديدة لفنانين أتوا الى باريس كان من بينهم بيكاسو وجورج براك ودالي و موديلياني . وكان استقرار موديلياني في حي مونمارتر بداية البحث عن الجميل والمجيد في هذا
العالم . صور النساء ووجوه الاطفال في رؤية خاصة امتاز بها وميزت الاسلوب المسلس في تعامله مع اللوحة. الانف طويل …. والرقبة مشرئبة . . والعينان غائصتان في غيبوبة أبدية..الجسم رشيق في امتزاجات لونية رائعة.
ان الرقة والانسجام اللذين انسابا في الوانه الدافئة ، كانا خلفية أخرى ، تختلف كليا عن الواقع الحياتي لهذا الرسام فقد عانى من مرض السل الذي « أمهله لكن لم يهمله » . أحب الحياة وتشبث بها ، واستمر يرسم الوجوه وأجسام النساء واستمر العالم يتنكر له. وحاول بوليس الحي مرة عدم ابراز لوحاته في صالة العرض لان رسومه – هكذا قيل – قريبة من الفوتغراف . وقليل منها بيع رغم التقدير الذي حصل عليه من نقاد الفن والمعجبين.

نساء في حياة مودیلیانی
ان الحافز الكبير الذي حدا بالرسام موديلياني الى التكثيف في تصوير المرأة ، كان الحب الكبير الذي ربطه مع جيني هيبوترن الطالبة في كلية الفنون . وكانت هي …وكان هو .. موضوعين لخلفية الصراع الذي عانى منه وهو الحب الذى خلد على مئات اللوحات والمرض الذي تشعب في رئتيه ولم يمهله طويلا . وهكذا كان : في ٢٤ كانون الثاني ۱۹۲۰ مات مودیلیانی من مرض السل . وفي اليوم التالي ماتت جيني هيبوترن عندما قفزت من الطابق الخامس وفي احشائها جنين وكملت الدراما الانسانية لرسام شاب أطل على العالم في برهة زمنية قصيرة ، لكنه بقى ..وبقيت لوحاته في صور الفتيات الدالمات ووجوه النساء ذات الاعناق المشرئبة والعيون الغائصة في اللانهاية بألوان
دافئة وأبدية 
عبد عابدی
source: Al Ittihad











