
اعداد : عبد عابدي
مخطوطات الحريري محفوظة في الكثير من المكتبات العالمية ، في لندن وباريس وفيينا وليننفراد ، ومع تلك المخطوطات التي كتب عنها أكثر من كتاب ، ويرد اسم الواسطي ، المزخرف والرسام الذي قام برسم وزخرفة تلك المخطوطات بعد مائة عام من وفاة الحريري ( ۱۲۲۷م ) ۰۰
فمن هو الواسطي ؟
وفي هذا الاستعراض الموجز ، تناول عبد المجيد وافي في مجلة (( العربي )) بعضا من جوانب فن الواسطي والمدارس الفنية في الزخرفة ورسوم الكتب في المراحل التاريخية للفن الاسلامي .اسم الواسطي قد ينبيء عن أصله ، فهو مصور عراقي كان من الجرأة حيث صرح باسمه كمصور في نهاية المخطوطة التي صورها ، في عصر تجمعت فيه فتاوى الفقهاء لتحقر المصورين وأعمالهم . واسمه كاملا ،يحيى بن محمود بن يحيى بن
الحسين الواسطي ، وقد خط -بقلمه الذي كتب مخطوطة باريس ، أنه انتهى من تصويرها بعد كتابتها الى كتابه -المقامات وتزويقها كما وان رسوم الواسطى -كانت سببا في شهرة مخطوطة المكتبة الاهلية في باريس ،والفضل في ذلك يرجع الى فن -الواسطي

تصوير الحركة
كما ان قدرته على تصوير حركة الحيوان ، واعطاءها اللمسة التعبيرية ، مضاهية بذلك انفعال الانسان وتعبيره :ولا تخطئه نسبة الاحجام بين الانسان والحيوان ، كما لا يخطئه الفهم التشريحي العنصر الحركة في الحيوان والانسان ،مما افتقدته صور اخرى للمقامات ، صورها غيره من المصورين ، بل ان الملاحظ الصور الواسطي المواقف المقامات المختلفة يلمس انه اختار مواضيع ومواقف يكاد يكون تصويرها من اصعب الاعمال ،وهو مع ذلك قد أكسبها خاصة الاحساس بالصور والضجيج والحركة ، من مجرد صورة صامتة قد خطت على الورق .
ألوانه
أما ألوانه فلم تتأثر بطبيعته مزخرفا او خطاطا ، بقدر ما تأثرت بشخصيته مصورا ،فكانت واقعية موزعة على صفحة الرسوم في تعبير متجانس ، لم تدخل فيها الألوان الفاقعة أو الصارخة ، وحتى اللون الذهبي الذي أكثر المصورون العرب من استعماله في مصوراتهم ، لم يستعمله يحيى الواسطي من حيث هو عامل من عوامل اظهار مجالات العظمة في الصور والرسوم ،بقدر ما استخدمه لونا معبرا عن الادوات المعدنية ، أو التي طعمت ، أو لبست بالمعادن أو الثياب ذات الوشي المطرزة .ولم ترق رسومه للشجر والنبات الى مستوى اجادته الرسم الحيوان والانسان ، اذ انه يتحول عندئذ الى مزخرف قد حور وجرد في شكل النبات ، وأدار تفريعاته وتوريقاته وأزهاره ادارة المزخرف العربي عامة وعندما كان توزيع الموضوع يقتضيه وضع أشعار ، في باب او نافذة ، أو بيان نوعية المكان ، لم تكن تشكيلات الزخارف اللازمة تعوزه ،سواء اكانت زخارف توريقية نباتية» أو زخارف هندسية يوزعها في اقتدار ، ويصرف الوانها في ابداع .
توزيع الأشكال والأشخاص
والواسطي في رسومه تناول الموضوعات الداخلية والخارجية ، في قدرة وتمكن واضحين ، في التكوين ( توزيع الأشكال في الصورة » والتعبير دون إغفال للتفاصيل ، ودون ان يكرر توزيعاته ، أو كما يقول النقاد يكرر نفسه في تكويناته او اوضاع اشخاصه وحيواناته الأمر الذي أخذه النقاد لفنيون على غيره من مصوري المخطوطات والكتب العربية ،حيث كانوا يلتزمون توزيعات معينة للاشخاص ، وحركات معينة كحلول محفوظة
للتشكيلات الفنية لا يتعدونها .
التصوير العربي بعامة
وتصويرات الواسطى المخطوطة المقامات ، ليست الا فرعا من فروع التصوير العربي ، الذي بدأ يأخذ مكانه بين فنون الحضارة الإسلامية العربية ،منذ نهاية القرن الهجري الاول واستمر الى نهاية القرن الثاني عشر ، اي من بداية القرن الثامن الميلادي الى القرن التاسع عشر .
ماذا صور العرب ؟
حيث صور المصورون على الجدران في القصور والعمائر ،بالالوان الزيتية والمائية ، أو باستعمال فصوص الفسيفساء ومسطحات الخزف ، وصوروا على الاطباق والأواني والمزاهر والقناني الخزفية وبلاطات الخزف باللون الواحد والالوان المتعددة ، قبل الطلاء اللامع تحت الطلاء – أو بعده ،وصوروا على الجلد والورق والخشب ، وحفروا الصور والرسوم على المعادن والخشب والعاج :وقد بدات كل هذه الانواع والفروع من حيث انتهت فنون الحضارات المعاصرة لنشأة الفن الاسلامي العربي ،واخذت تستقل باساليبها .وأدواتها وتعبيراتها .
مواطن التصوير العربي
عرفت فنون التصوير
العربي في العراق وسوريا و فلسطين ومصر والاندلس ،وكانت لها مجموعات ذات -تقاليد خاصة ، انتقلت من -قطر الى قطر ، بانتقال الفنانين انفسهم ، أو تبعا لاهتمامات الحكام ، والقائمين على الأمور. ومن ذلك التنوع عرفت مدارس التصوير في العصر الاموي والعباسي ثم في العصر
الفاطمي بمصر ، وقد امتدت تأثيراته واساليبه الى (بالرمو) في صقلية ، حيث ما زال اروع أمثلة التصوير الفاطمي ماثلا في -سقوف كنيسة القصر الملكي حتى الآن
ثم التصوير المغربي والأندلسي العربي ، وعرفت هذه المدارس بمواطنها في العراق : واسط ، وبغداد والموصل ، وفى سورية :دمشق ، وفي فلسطين ، القدس ، وبادية الأردن ، وفي مصر : القاهرة ، وفي الأندلس بـ قرطبة ، وأشبيلية وغرناطة .و عبرت كل مدرسة بتقاليدها المتطورة ، قرون و العصور الإسلامية التي ذكرناها متتابعة ، ثم عاصرتها بعد سقوط الخلافة في بغداد مدارس التصوير الإسلامي الفارسي ، ثم الهندي ، ثم
التركي
بين فنيين عربيين معاصرین
وأعود الى فننا العربي وأساليبه فأقول : حسبنا ان تقارن بين عملين فنيين معاصرين من أعمال الفنانين العرب ، صور المقامات التي صورها يحيى ابن محمود الواسطي ، وصور المخطوطة المترجمة عن محاضرات ديسقوريدس » والتي يظن انها من عمل المصور : عبد الله بن الفضل وهو معاصر للواسطي . فلكل من هذين المصورين شخصيته المتميزة في التعبير عن البعد الثالث في صوره ، فابن الفضل يعتمد على الظل
والضوء وزاوية سقوطه ،ورسم المكعبات والابعاد رسما منظوريا ليعبر عن العمق أو ذلك البعد الثالث .على حين لم يتخذ الواسطى
من وسيلة للتعبير عن ذلك غير اختفاء الاجسام الخلفية وراء أجزاء من الاجسام الامامية ، ودون ارهاق للفكر والنظر والتعقيد في التكوينات يدرك
الناظر في الصورة أعماقها وأبعادها ، وأن لم يجدد ذلك ضوء او ظل وبينما قيدت الظلال والاضواء من قدرة ابن الفضل على تعديد الشخوص في
تكويناته ، وحرية الحركة والتعبير ، وارتباط الابعاد والظلال والاضواء بوضع الاثاث انطلق الواسطى في لوحاته في حرية الحركة والتغبير ،
والافراد والادوات دون أن يشغل نفسه باسقاط الظلال والاضواء ، واكتفى بتباين الالوان لفصل عناصر تكويناته وصوره: کل عن الآخر ،
واستعمال الخط المحدد حول -الاشكال ، فلم يفقد الناظر -الاحساس بالبعد الثالث او العمق خاصة أخرى قد امتازت بها مصورات الواسطي من
غيره بين المصورين العرب ممن سبقه او خلفه ، وهي عدم وقوعه في ضرورة التكرار والتتابع الرتيب ، عندما تتكرر معه بمقتضى سياق
النص – مجموعة متشابهة من المواقف ، وتعدد الاشخاص والحيوان كالخيل والابل ، فانه كان يصور كل موضوع ، مع مغايرة تامة في حركات وتعبيرات شخصیات انسانية وحيوانية في فهم واضح لميكانيكية الحركات العضلية والتعبيرية ،مع استعمال العنصر اللوني
كوسيلة ثانية لنفي الرتابة والتكرار ….
تعايير رمزية عند مصوري العرب
ولقد كانت للمصورين العرب لوازم في بعض موضوعاتهم ، اعتبرها النقاد اسيرة تقليد المصورين بعضهم لبعض ، مثل الكوب في يد الجالسين متربعين ، واشخاص طائرة كالملائكة تحمل وشاحا حول رأس الامير الجالس ،تعبيرا عن سمو مكانة ماسك الكوب ، أو من يحيط به حملة
الوشاح ، واذا كانت هذه اللوازم قد انتشرت فترة في المدارس المتقاربة كالمدرسة البغدادية او الموصلية أو السورية ، وأحيانا المملوكية في
مصر ، فان كثيرا من هؤلاء المصورين العرب قد تخلصوا من تلك اللوازم من حيث هي تعبير رمزي ، واتجهوا الى التعبير المباشر الموضوعي ،
متابعين لعناصر السياق ،مركزين على التعبير الحركي الاشخاص النص ، واكثر الكتب تحقيقا لهذا التطور هي مصورات المقامات في
مخطوطاتها التي عددناها سالفا
عمل المصورين العرب في المخطوطات
ولم يكن عمل المصورين في المخطوطات ، مرتبطا بالتعبير او التسجيل القصصي وحده ،بل صور الفنانون العرب كتب النبات وخواص العقاقير ،وكتب البيطرة ، والطب وغيرها ، فقد ذكر ابن ابي أصيبعة في كتابه « عيون الانباء ) ج ۲ ص ۲۱۹ أن رشيد الدين بن الصوري كان يستصحب معه الرسام الى مواطن النبات فيصوره عن الطبيعة في أحواله الثلاثة :بدئه ، وازدهاره ، ویبسه .وقد ضمت مخطوطة
ديسقوريدس » التي سلفت الاشارة اليها صور الدراسات عن الكرم والعدس ، وهي مما يظن أنها لعبد الله بن الفضل الفنان العراقي في اوائل القرن
السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) .
ولقد عرفتنا بعض صور المخطوطات بملامح البيئة ، ظهر ذلك في أعمال الواسطي في صور المقامات كما رأينا ذلك في مخطوطة « بياض ورياض )المخطوطة المغربية – والمحفوظة بمكتبة الفاتيكان تحت رقم ٣٦٨ ، فقد رأينا الفتى بياضا»يلبس البرنس المغربي الاندلسي مع العمامة ، بينما لبست الفتيات ومن بينهن رياض الملابس العربية مع تأثيرات أوروبية ، وذلك هو ما عرف عن أزياء أهل الاندلس في أيام بني نصر وايام الطوائف ، اذ بينما كان الاوروبيون يقتبسون ثقافتهم من العرب في الاندلس ، كان العرب يحاولون تقليد الغربيين في عاداتهم وثيابهم ، كما أضاف الفنان العربي طرازات العمارة الاندلسية بوضوح في خلفيات صوره ، وذلك لأن المخطوطة مغربية التدوين والتصوير أو اندلسية – مع ان مسرح القصة الاصلية هو شمالي العراق

