comments
هنا سفر. وهناك سفر. وبين هنا وهناك سفر. سفر الروح والجسد. وصل وفصل. ذهب الى هناك. حلق في السماء؛ ونظر من أعلى؛ مسيح مصلوب؛ حاملا ما تبقى من سير الراحلين ومن آلام الباقين؛ ومكبل بتراب وحجارة ووديان ومناديل الوطن التي كانت قد حيكت بإبرة الوجود الدقيقة من أجل تطريز السماء. ينتفض على شروط الأسر؛ ويكشف قضبان الحصار ليطل منه الفضاء ولكي يرى النور. يتصارع الداخل والخارج والباطن والظاهر على تحديد نقطة الارتكاز وعلى ايجاد زاوية الرؤية.
أرى كما يرى؛ لا. بل أرى ما أستطيع أن أرى. فهو جزء مما يرى. أما أنا فاراه وأرى ما أستطيع أن أرى. ألوان زاهية، وحقول وسهول وهضاب وجبال وبيوت قديمة مسقوفة بقرميد تربط بينها قنطرة قد خفي ما تحتها. أهي طريق أم قناة تمر منها الزوارق الصغيرة ؟ لا أدري. أما هو فحتما يدري.
زوايا ونوافذ وابواب وجدران بيوت واثقة بذاتها. لا ارى بشر هناك. إلا ذاك المعلق في السماء، لا أحد سواه؛ كالمهاجر الذي شق السحاب ليتحايل على أمواج البحار الغادرة. هو ليس هناك. وليس هنا. مرة أخرى يراوح في البرزخ على خط التماس، تتضاد أو تتعايش الهويات؛ بل تتساءل حول شرعية تعدديتها وحركيتها. السفر حركة وفعل وكشف للأسرار وبحسب محي الدين ابن عربي هو ” الحياة” و” الحياة سفر”.
يقول الفيلسوف أبو حامد الغزالي: “فالسفر وسيلة إلى الخلاص من مهروب عنه أو الوصول لمرغوب فيه ، والسفر سفران ، سفر بظاهر البدن المستقر والوطن ، وسفر بسير القلب عن أسفل السافلين إلى ملكوت السماوات ، وأشرف السفر سفر الباطن”.
“يتدبر” ذلك “المتوحد” المدفوع بفلسفة ابن باجة، باحثا عن الحقيقة والمعنى من خلال العزلة والتفكر والتفرد والانقطاع. لا. بل بالتأمل والوصل والمشاهدة والمجاهدة والمكابدة. وما بين البرهان والعرفان وحيرة المضطر تلحظ عينيه من بعيد كلمةHAZAI يهم مسرعا يقلب القواميس؛ فيدرك أنها كلمة هنغارية تعني ” بيت”. يسمع من مكان بعيد صوت محمود درويش قائلا:”
اطل كشرفة بيت على ما أريد
اطل على اصدقائي وهم يحملون بريد
المساء…”
شكرا للفنان الكبير والقدير عبد عابدي على هذا الرسم الرائع الملهم للكتابة.